تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً فكذبت الرسل، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنك تكذيب قومك لك، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه. {فهو وليهم اليوم} أي هم تحت العقوبة والنكال، والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم، ولهم عذاب أليم. ثم قال تعالى لرسوله: إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه ؟ فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه {وهدى} أي للقلوب {ورحمة} أي لمن تمسك به {لقوم يؤمنون} وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء {إن في ذلك لاَية لقوم يسمعون} أي يفهمون الكلام ومعناه
وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يقول تعالى: {وإن لكم} أيها الناس{في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} أي لاَية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه {نسقيكم مما في بطونه} أفردها ههنا عوداً على معنى النعم، أو الضمير عائد على الحيوان، فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان، وفي الاَية الأخرى مما في بطونها، ويجوز هذا وهذا، كما في قوله تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره} وفي قوله تعالى: {وإني مرسلة إليهم بهديه فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان} أي المال
وقوله: {من بين فرث ودم لبناً خالصاً} أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته، ما بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فيصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الاَخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله: {لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} أي لا يغص به أحد، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه، ولهذا امتن به عليهم فقال: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً} دل على إباحته شرعا قبل تحريمه، ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك
كما قال ابن عباس في قوله: {سكراً ورزقاً حسناً} السكر ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما، وفي رواية: السكر حرامه، والرزق الحسن حلاله، يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ، حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك {إن في ذلك لاَية لقوم يعقلون} ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها، قال الله تعالى: {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}
وَأَوْحَىَ رَبّكَ إِلَىَ النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ
المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية، والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل، ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها، أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم، والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها، وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها
وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فاسلكي سبل ربك ذللاً} أي مطيعة، فجعلاه حالاً من السالكة، قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم، والقول الأول هو الأظهر، وهو أنه حال من الطريق، أي فاسلكيها مذللة لك، نص عليه مجاهد، وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح. وقد قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عمر الذباب أربعون يوماً، والذباب كله في النار إلا النحل»
وقوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله: {فيه شفاء للناس} أي في العسل شفاء للناس، أي من أدواء تعرض لهم، قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه الشفاء للناس، لكان دواء لكل داء، ولكن قال فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار والشيء يداوى بضده
وقال مجاهد وابن جرير في قوله: {فيه شفاء للناس} يعني القرآن، وهذا قول صحيح في نفسه، ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الاَية، فإن الاَية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله ههنا، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} وقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فيه شفاء للناس} هو العسل، الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال «اسقه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يارسول الله سقيته عسلاً، فما زاده إلا استطلاقا، قال: «اذهب فاسقه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يارسول الله، ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً فبرىء. قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت، فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسده المضرة بالبدن، استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والاَلام ببركة إشارته، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل، هذا لفظ البخاري: وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي»
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة، سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكون في شيء من أدويتكم خير: ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي» ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله أنبأنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «ثلاث إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية تصيب ألماً، وأنا أكره الكي ولا أحبه» ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري، عن عبد الله بن الوليد به، ولفظه «إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم» وذكره، وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجوه. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه: حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي، حدثنا زيد بن حباب، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن» وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعا، وقد رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلاً فليشربه بذلك فإنه شفاء: أي من وجوه، وقال الله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} وقال: {وأنزلنا من السماء ماء مباركاً} وقال: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} وقال في العسل: {فيه شفاء للناس}
وقال ابن ماجه أيضاً: حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله «من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر، لم يصبه عظيم من البلاء» الزبير بن سعيد متروك. وقال ابن ماجه أيضاً: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي، حدثنا عمرو بن بكير السكسكي، حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي بن أم حرام وكان قد صلى القبلتين، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسنا والسنوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام» قيل: يارسول الله وما السام ؟ قال {الموت} قال عمرو: قال ابن أبي عبلة: السنوت الشبت. وقال آخرون: بل هو العسل الذي في زقاق السمن، وهو قول الشاعر
هم السمن بالسنوت لا لبس فيهم وهم يمنعون الجار أن يقردا
كذا رواه ابن ماجه، وقوله: لا لبس فيهم أي لا خلط. وقوله: يمنعون الجار أن يقردا، أي يضطهد ويظلم، وقوله: {إن في ذلك لاَية لقوم يتفكرون} أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء، لاَية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم
وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم وهو الضعف في الخلقة، كما قال الله تعالى: { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة} الاَية، وقد روي عن علي رضي الله عنه: أرذل العمر خمس وسبعون سنة، وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف، وسوء الحفظ وقلة العلم، ولهذا قال: {لكيلا يعلم بعد علم شيئاً}، أي بعد ما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفند والخرف، ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور عن شعيب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو«أعوذ بك من البخل والكسل والهرم، وأرذل العمر وعذاب القبر، وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات وقال زهير بن أبي سلمة في معلقته المشهورة
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم
وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ فِي الْرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ عَلَىَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فقال تعالى منكراً عليهم: أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم، كما قال في الاَية الأخرى: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} الاَية، قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية: يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، فذلك قوله: {أفبنعمة الله يجحدون} وقال في الرواية الأخرى عنه: فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم. وقال مجاهد في هذه الاَية: هذا مثل الاَلهة الباطلة، وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله، فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا، فالله أحق أن ينزه منك
وقوله: {أفبنعمة الله يجحدون} أي أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فجحدوا نعمته، وأشركوا معه غيره. وعن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم
وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطّيّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً، وجعل الإناث أزواجاً للذكور، ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين، قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك وابن زيد، قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: بنين وحفدة، وهم الولد وولد الولد. وقال سنيد: حدثنا حجاج عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس قال: بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك، قال جميل
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
وقال مجاهد: بنين وحفدة ابنه وخادمه وقال في رواية: الحفدة الأنصار والأعوان والخدام، وقال طاوس وغير واحد: الحفدة الخدم. وكذا قال قتادة وأبو مالك والحسن البصري. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال: الحفدة من خدمك من ولدك وولد ولدك، قال الضحاك: إنما كانت العرب تخدمها بنوها. وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} يقول: بنو امرأة الرجل ليسوا منه، ويقال: الحفدة الرجل يعمل بين يدي الرجل. يقال: فلان يحفد لنا أي يعمل لنا، قال: وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل، وهذا الأخير الذي ذكره ابن عباس، قاله ابن مسعود ومسروق وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والقرظي، ورواه عكرمة عن ابن عباس، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الأصهار.
قال ابن جرير: وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة، وهو الخدمة الذي منه قوله في القنوت: وإليك نسعى ونحفد، ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار، فالنعمة حاصلة بهذا كله، ولهذا قال: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} قلت: فمن جعل {وحفدة} متعلقاً بأزواجكم، فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد والأصهار، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة، وكذا قال الشعبي والضحاك، فإنهم يكونون غالباً تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته، وقد يكون هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث نضرة بن أكثم «والولد عبد لك» رواه أبو داود. وأما من جعل الحفدة الخدم، فعنده أنه معطوف على قوله: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدماً
وقوله: {ورزقكم من الطيبات} أي من المطاعم والمشارب. ثم قال تعالى منكراً على من أشرك في عبادة المنعم غيره: {أفبالباطل يؤمنون} وهم الأنداد والأصنام {وبنعمة الله هم يكفرون} أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره. وفي الحديث الصحيح «إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتناً عليه: ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع ؟»
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأمْثَالَ إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق، وحده لا شريك ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً، أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر، ولا يملكون ذلك لأنفسهم، أي ليس لهم ذلك، ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً {إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون}أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.