فاتحة الكتاب
وقبل أن نتكلم عن قول الحق تبارك وتعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" .. لابد أن نتحدث عن قضية هامة .. فهناك نوعان من الرؤية .. الرؤية العينية أي بالعين .. والرؤية الإيمانية أي بالقلب .. وكلاهما مختلف عن الآخر .. رؤية العين هي أن يكون الشيء أمامك تراه بعينيك، وهذه ليس فيها قضية إيمان .. فلا تقول أنني أومن أنني أراك أمامي لأنك تراني فعلا .. مادمت تراني فهذا يقين .. ولكن الرؤية الإيمانية هي أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمامك .. وتكون هذه الرؤية أكثر يقينا من رؤية العين .. لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرة .. وهذه قضية هامة
<وقد روي عمر بن الخطاب قال:
بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلي النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلي ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا رسول الله. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت أن استطعت إليه سبيلا قال:صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال: فاخبرني عن الإيمان.
قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وتؤمن القدر؛ خيره وشره
قال: صدقت. قال: فاخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فأنه يراك.
قال: فاخبرني عن الساعة؟
قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال: فاخبرني عن أماراتها
قال: أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
قال: ثم انطلق فلبثت مليا .. ثم قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم>
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
<أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك>
.. هو بيان للرؤية الإيمانية في النفس المؤمنة .. فالإنسان حينما يؤمن، لابد أن يأخذ كل قضاياه برؤية إيمانية .. حتى إذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم ينعمون .. وإذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه .. وكأنه يرى أهل النار وهم يعذبون.
ذات يوم شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صحابته وكان اسمه الحارث .. فقال له:
كيف أصبحت يا حارث؟
فقال: أصبحت مؤمنا حقا
قال الرسول: فانظر ما تقول. فإن لكل قول حقيقة. فما حقيقة إيمانك؟
قال الحارث: عزفت نفسي عن الدنيا. فأسهرت ليلي. وأظمأت نهاري. وكأني انظر عرش ربي بارزا. وكأني انظر إلي أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني انظر إلي أهل النار يتضاغون فيها. (يتصايحون فيها)
قال النبي "يا حارث عرفت فالزم"
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم .. يقول:
{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل "1" }
(سورة الفيل)
يأخذ بعض المستشرقين هذه الآية في محاولة للطعن في القرآن الكريم .. فقوله تعالى: "ألم تر" .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل .. أنه لم ير لأنه كان طفلا عمره أياما أو شهورا .. لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم .. لقلنا علم من غيره .. فالعلم تحصل عليه أنت أو يعطيه لك من علمه .. أي يعلمك غيرك من البشر .. ولكن الله سبحانه وتعالى قال: "ألم تر"..
نقول أن هذه قضية من قضايا الإيمان .. فما يقوله الله سبحانه وتعالى هو رؤية صادقة بالنسبة للإنسان المؤمن .. فالقرآن هو كلام متعبد بتلاوته حتى قيام الساعة .. وقول الله: "ألم تر" .. معناها أن الرؤية مستمرة لكل مؤمن بالله يقرأ هذه الآية .. فمادام الله تبارك وتعالى قال: "ألم تر" .. فأنت ترى بإيمانك ما تعجز عينك عن أن تراه .. هذه هي الرؤية الإيمانية، وهي أصدق من رؤية العين .. لأن العين قد تخدع صاحبها ولكن القلب المؤمن لا يخدع صاحبه أبدا..
على أن هناك ما يسمونه ضمير الغائب .. إذا قلت زيد حضر .. فهو موجود أمامك .. ولكن إذا قلت قابلت زيدا .. فكأن زيداً غائب عنك ساعة قلت هذه الجملة .. قابلته ولكنه ليس موجوداً معك ساعة الحديث..
إذن فهناك حاضر وغائب ومتكلم .. الغائب هو من ليس موجوداً أو لا نراه وقت الحديث .. والحاضر هو الموجود وقت الحديث .. والمتكلم هو الذي يتحدث. وقضايا العقيدة كلها ليس فيها مشاهدة، ولكن الإيمان بما هو غيب عنا يعطينا الرؤية الإيمانية التي هي كما قلنا أقوى من رؤية البصر.
يقول الله تعالى في سورة الفيل مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم .. ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)
بعض المستشرقين يقول هذا قصور في التعبير ... ( أَلَمْ تَرَ) هل رأي محمد عليه السلام عام الفيل .. لقد ولد في عام الفيل .. إنه لم ير .. لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم .. لقلنا علم عن غيره .. فالعلم قد تحصل عليه أنت .. وقد تحصل عليه عن طريق من علمه من غيرك من البشر .. ولكن الله سبحانه وتعالى حين يقول ألم تر .. يقول المستشرقون في هذا .. إن التعبير قد خان محمدا عليه السلام .. فهو لم ير .. وقوله ألم تر مجافاة لحقيقة واقعة ثابتة .
ولكن الذي فات هؤلاء إن هذه قضية من قضايا الإيمان ..
ما يقول الله سبحانه وتعالى للإنسان المؤمن .. هو رؤية صادقة .. والقرآن هو كلام متعبد بتلاوته لا يتغير ولا يتبدل ... فعندما يقول الله ( ألم تر ) .. معناها أن الرؤية مستمرة لكل مؤمن بالله .. ذلك لأن الرؤية هنا رؤيا معجزة كبرى ... والله يريدها أن تثبت في عقولنا .. كما تثبت الرؤية تماما .
لماذا ؟ لأن قضية الإيمان الكبرى هنا هي إن الله سبحانه وتعالى في معجزة قد خلق من الضعف قوة .. وهذه لا يستطيع أن يفعلها إلا الله .
أنا أستطيع أن أعين شخصا ضعيفا .. على أن يحمل حملا ثقيلا .. بأن أحمل عنه هذا الحمل .. ولكني لا أستطيع ولا أقدر أن أجعل هذا الرجل الضعيف قويا .. بحيث يقوم هو بنفسه بحمل هذا الحمل الثقيل .. ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يستطيع أن يخلق من هذا الضعف الذي لا حول له وقوة قويا يهزم أقوى أقوياء العالم .. وأقوى ملوك الدنيا .. وهو إنسان ضعيف لا حول له ولا قوة .. هذه هي إحدى معجزات الله ... ومن هنا فإن الذي حدث في عام الفيل ... أن طيرا أبابيل تمسك في مناقيرها حجارة صغيرة جاءت .. وهزمت جيشا من الأفيال ..أقوى جيش في العالم .. في ذلك الوقت ... ولو انني عقلا ومنطقا قلت لإنسان أن طيرا ... أو مجموعة من العصافير قد هزمت فيلا لسخر منى ...
ذلك أن الفيل يستطيع أن يهلك مئات الطيور دون أن يصاب بأذى ... بل أن الطير يقف على ظهر الفيل ... فلا يحس الفيل به .. فكيف يكون هذا الطير يأتي وكونه يفنى هذا الجيش العظيم .. فقد استخدم الله أضعف مخلوقاته .. ليهزم خلقا من أقوى مخلوقاته .. وهذه معجزة لا يمكن أن تتم إلا على يد الله سبحانه وتعالى .
بل إن البعض العلماء قد أخذ يتشكك في هذه الناحية من كثرة ما تناولها المستشرقون .. فادعى أو قال بعضهم إن الذي فتك بجيش أبرهة هو الأمراض والجراثيم التي سلطها الله على هذا الجيش ..
وأنا لا أتفق مع هذا المعنى ..
فعام الفيل حدث عند مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ورسول الله بعث في الأربعين من عمره .. أي أنه في ذلك الوقت كان هناك من هم في سن الخامسة والخمسين .. والستين .. والخامسة والستين .. والسبعين .. ومن هم فوق ذلك .. ممن رأوا عام الفيل .. رأي العين .. ولو أنها لم تجعل هذا الجيش عصفا مأكولا .. وهو ما يحتاج إلى أسابيع بالنسبة لأي جسم حيواني .. أو بشرى .. لكان هؤلاء الناس قد ماتوا وقالوا إن ما يقوله محمد غير صحيح .. لقد شهدنا عام الفيل .. ولم نر طيرا تأتى ... ولم نرها تفنى أعظم جيش بأحجار صغيرة تحملها في مناقيرها .. ولم نر هذا الجيش يتحول إلى عصف مأكول في لحظات .. فلأن أحدا لم يستطع أن يكذب هذه الواقعة ... وقت نزولها ممن رأوها .. دليل على أنها حدثت كما رويت في القرآن الكريم .. وليست محتاجة إلى تفسير لأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء ... ومن هنا فإنه في القضايا الإيمانية يكون كلام الله سبحانه وتعالى هو الرؤية الدائمة التي تتمثل أمامنا .. والتي تتكرر باستمرار في الحياة .. فكم من قوي خذله الله وجعل نهايته على يد أضعف الضعفاء .
كلام الله سبحانه وتعالى بالنسبة للؤمن .. هو يقيني بمثابة الرؤية الدائمة .. ولذلك قال لله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ) حاضر متجدد مستمر يحدث وسيحدث على مر السنين إلى يوم الساعة .. إنه قضية الحق ينصر الله المظلوم علي الظالم .. مهما كانت قوة الظالم , ومهما كان ضعف المظلوم .. تلك قضية إيمانية كبرى يجب أن تراها في قلبك إذا كنت مؤمنا .. وتراها رؤية اليقين ( أَلَمْ تَرَ) .. هذا هو الإيمان .. وهذه هي الحكمة في استخدام كلمة ( أَلَمْ تَرَ) .. تجعل المؤمن يحس بقوة الله وقدرة الله في كل ما يحدث .. بالنسبة للحق والباطل .. وقضايا الحق .. وقضايا الباطل .. حتى قيام الساعة ...