فعلى العاقل أن يحذر هذه المخالفات، فمن جنسها يكون العذاب في الآخرة.
وهؤلاء المجرمون حال تنكيسهم يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..} [السجدة: 12] هذا كلامهم، ومع ذلك لم يقل القرآن: قالوا أبصرنا وسمعنا، فحَذْف الفعل هنا يدل على أن القول ليس سهلاً عليهم؛ لأنه إقرار بخطئهم الأول وإعلان لذَّلة التوبة.
وقلنا: إن هذه هي الآية الوحيدة التي تقدَّم فيها البصر على السمع؛ لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولاً، ثم نسمع ما نراه.
لذلك يقول تعالى مُصوِّراً أثر هذا الهول: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2].
وفي معرض حديثنا السابق عن الحواس: السمع والبصر والفؤاد فاتنا أنْ نذكر آية مهمة جاءت على غير هذا الترتيب، وهي قول الله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7].
فجاء الفؤاد هنا أولاً، وجمع الفؤاد مع السمع في الختم لأنهما اشتركا فيه، أما البصر فاختص بشيء آخر، وهو الغشاوة التي تُغطِّي أبصارهم؛ ذلك لأن الآية السابقة في السمع والبصر والفؤاد كانت عطاءً من الله، فبدأ بالسمع، ثم البصر، ثم ترقى في العطاء إلى الفؤاد، لكن هنا المقام مقام سلب لهذه النعم، فيسلب الأهم أولاً، فأتى بالفؤاد ثم السمع ثم الأبصار.
لكن أي شيء أبصروه؟ وأي شيء سمعوه في قولهم {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..} [السجدة: 12]؟ أول شيء يبصره الكافر يوم القيامة {وَوَجَدَ الله عِندَهُ...} [النور: 39] وحده سبحانه ليس معه شريك من الشركاء الذين عبدوهم في الدنيا، وليس لهم من دونه سبحانه وليٌّ، ولا شفيع، ولا نصير.
ومعنى {وَسَمِعْنَا..} [السجدة: 12] أي: ما أنزلته يا رب على رسولك، ونشهد أنه الحق وصدَّقنا الرسول في البلاغ عنك، وأنه ليس مُفْترياً، ولا هو شاعر، ولا هو ساحر، ولا هو كذاب.
لكن، ما فائدة هذا الاعتراف الآن؟ وبماذا ينفعهم وهو في دار الحساب؟ لا في دار العمل والتكليف؟! وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أنْ يغرق: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ...} [يونس: 90] لذلك ردَّ الله عليه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91].
فقولهم: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..} [السجدة: 12] إقرار منهم بأنهم كانوا على خطأ، وأنهم يرغبون في الرجوع إلى الصواب، كما قال سبحانه في موضع آخر: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ...} [المؤمنون: 99-100]، وردَّ الله عليه: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 100].
ثم كشف حقيقة أمرهم: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
وهنا يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وهل يكون اليقين في هذا الموقف؟ اليقين إنما يكون بالأمر الغيبي، وأنتم الآن في اليقين الحسيِّ المشَاهدَ، فهو إذن يقين لا يُجدى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا...}.