لها عجائب في كتاب الله منها هذه الآية: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ...} [العنكبوت: 48] فيقول بعض العارفين(من قبله): أي من قبل نزول القرآن عليك، وهذا القول {قَبْلِهِ..} [العنكبوت: 48] يدل على أنه من الجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه، حتى لا يكون في أمته من هو أحسن حالاً منه في أي شيء، أو في خصلة من خصال الخير.
ثم تأمل قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ...} [البقرة: 91] ألاَ يدخل في روع رسول الله أنهم ربما يجترئون عليه فيقتَلوه، فيتهيب منهم، أو يدخل في نفوسهم هم، فيجترئون عليه كما قتلوا الأنبياء من قبل؛ لذلك جاءتْ الآية لتقرر أن هذا كان في الماضي، أما الآن فلن يحدث شيء من هذا أبداً، ولن يُمكِّنكم الله من نبيه.
وكلمة {وَمَا كُنتَ...} [العنكبوت: 48] تكررت كثيراً في كتاب الله، ويُسمُّونها في الزمن الماضي، والحاضر، والمستقبل.
كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر...} [القصص: 44].
وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا...} [القصص: 45].
وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ...} [آل عمران: 44].
وهنا: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ...} [العنكبوت: 48].
لذلك وصفه ربه- عز وجل- بأنه {الرسول النبي الأمي...} [الأعراف: 157] وإياك أن تظن أن الأمية عَيْب في رسول الله، فإنْ كانت عيباً في غيره، فهي فيه شرف؛ لأن معنى أمي يعني على فطرته كما ولدتْه أمه، لم يتعلم شيئاً من أحد، وكذلك رسول الله لم يتعلَّم من الخَلْق، إنما تعلم من الخالق فعلَتْ مرتبةُ علمه عن الخَلْق.
ومن ذلك المكانة التي أخذها الإمام علي- رضي الله عنه- في العلم والإفتاء حتى قال عنه عمر رضي الله عنه- مع ما عُرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزلُ موافقاً لرأيه، ومُؤيّداً لقوله- يقول عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن. لماذا؟
لأنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلاغة، ألم يراجع الفاروقَ في مسألة المرأة التي ولدتْ لستة أشهر من زواجها، وعمر يريد أنْ يقيم عليها الحد؛ لأن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر فتسرَّع البعض وقالوا: إنها سُبق إليها، لكن يكون للإمام على رأي آخر، فيقول لعمر: لكن الله يقول غير هذا، فيقول عمر: وما ذاك؟ قال: ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ...} [البقرة: 233] قال: بلى.
قال: ألم يقل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...} [الأحقاف: 15] وبطرح العامين من ثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، فإذا ولدتْ المرأة لستة أشهر، فهذا أمر طبيعي لا ارتيابَ فيه.
وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي الله عنهما- فسأله عمر: كيف أصبحتَ يا حذيفة؟ فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين، أصبحت أحب الفتنة، وأكره الحق، وأُصلِّي بغير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.
فغضب عمر، وهَمَّ أن يضربه بدرة في يده، وعندها دخل عليٌّ فوجد عمر مُغْضباً فقال: مالي أراك مغضباً يا أمير المؤمنين؟ فقصَّ عليه ما كان من أمر حذيفة، فقال علي: نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ...} [التغابن: 15].
ويكره الحق أي: الموت فهو حقّ لكنا نكرهه، ويُصلِّي على النبي بغير وضوء، وله في الأرض ولد وزوجة، وليس ذلك لله في السماء. فقال عمر قولته المشهورة: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.
فلماذا تميَّز عليٌّ بهذه الميزة من العِلْم والفقه والحجة؟ لأنه تربَّى في حِجرْ النبوة فاستقى من نَبْعها، وترعرع في أحضان العلوم الإسلامية منذ نعومة أظافره، ولم يعرف شيئاً من معلومات الجاهلية، فلما تتفاعل عنده العلوم الإسلامية لا تَلِد إلا حقاً.
ثم يقول سبحانه: {إِذاً...} [العنكبوت: 48] يعني: لو حصل منك قراءة أو كتابة {لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] أي: لَكَان لهم عُذْر ووجهة نظر في الارتياب، والارتياب لا يعني مجرد الشك، إنما شك باتهام أي: يتهمون رسول الله بأنه كان على عِلْم بالقراءة والكتابة؛ لذلك وصفهم بأنهم مبطلون في اتهامهم له صلى الله عليه وسلم. ===================================================================
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ(49)}
{بَلْ...} [العنكبوت: 49] حرف يفيد الإضراب عما قبله، وتأكيد ما بعده {هُوَ} أي: القرآن {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم...} [العنكبوت: 49] ولم يقل مثلاً: في ذاكرتهم؛ لأن الأذن تستقبل الكلام وتعرضه على العقل، فإنْ قبله يستقر في القلب وفي الصدر، وفيه يتحول إلى عقيدة وإلى يقين لا يقبل الشكَّ ولا يتزحزح.
لذلك يقول تعالى عن القرآن: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 193-194] فقال: {على قَلْبِكَ...} [الشعراء: 194] أي: مباشرة استقر في قلبه، ولم يقُلْ على أذنك.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ...}.
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)}
أي: بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى، وسبق أنْ قلنا: إن الحق سبحانه كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا، فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز مقتدر.
واقرأ مثلاً قوله سبحانه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا...} [الإسراء: 59] فلما كذَّبوا بالآية التي طلبوها أهلكهم الله؛ لأن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع، إنما هي الإصرار على الكفر، إذن: فطلب الإنزال لآية خاصة باقتراحهم ليس مانعاً لهم أنْ يكفروا أيضاً برسول الله.
لذلك يقول سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات...} [الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون...} [الإسراء: 59] وحين تنزل الآية ويُكذِّبون بها تنزل بهم عقوبة السماء، لكن الحق سبحانه وتعالى قطع العهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ألاَّ يُعذِّب أمته وهو فيهم، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الآية المقترحة، ثم إن الآيات المقترحة آيات كونية تأتي وتذهب، كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة، ثم ينطفئ، رآه مَنْ رآه، وأصبح خبراً لمن لم يَرَه.
وكلمة {لَوْلاَ...} [العنكبوت: 50] تستخدم في لغة العرب استخدامين: إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية مثل: لولا زيد عندك لَزرتُك، وهي هنا حرف امتناع لوجود، فقد امتنعتْ الزيارة لوجود زيد. وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل: لولا تذاكر دروسك، فهي للحضِّ وللحثِّ على الفعل.
فقولهم {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ...} [العنكبوت: 50] كان الآية التي جاءتهم من عند الله لا يعترفون بها، ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن: أنتم معترفون بالقرآن، مقتنعون به، لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين الناس جميعاً. ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضاً، ويعترفون من حيث لا يشعرون بأن محمداً رسول الله حينما قالوا: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ...} [المنافقون: 7] فما دُمْتم تعرفون أنه رسول الله، فلماذا تُعادونه؟ إذن: فالبديهة الفطرية تكذِّبهم، ينطق الحق على ألسنتهم على حين غفلة منهم.
ويرد الحق تبارك وتعالى عليهم: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله...} [العنكبوت: 50] فهي عند الله، ليست عندي، وليست بالطلب حسب أهوائكم {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [العنكبوت: 50] أي: هذه مهمتي، واختار الإنذار مع أنه صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، لكن خَصَّهم هنا بالإنذار، لأنهم أهل لِجَاج، وأهل باطل وجحود، فيناسبهم كلمة الإنذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب...}.
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51)}
والاستفهام هنا للتعجُّب وللإنكار، يعني: كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن: هم يريدون أنْ يتمحّكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حَقٍّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به.
وقوله تعالى: {يتلى عَلَيْهِمْ...} [العنكبوت: 51] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أُنزِل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ.
ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يُعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
وإلا، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حِفْظاً أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى...} [العنكبوت: 51] لكن لمن {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه؛ لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته.
لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلام الله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ...} [فصلت: 44].
أما الذين يجحدونه ولا يُحسنون استقباله، فيقول عنهم: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى...} [فصلت: 44].
وسبق أنْ قلنا: إن الفعل واحد، لكن المستقبل مختلف، ومثَّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في البرد، ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده، وأنت أيضاً تنفخ في الشمعة لتطفئها، وتنفخ في النار لتشعلها.
وفي موضع آخر يقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ...} [الإسراء: 82]، ففرْق بين الشفاء والرحمة، الشفاء يعني: أنه كانت هناك علة، فبرأت، لكن الرحمة ألاَّ تعاودك العلة، ولا يأتيك الداء مرة أخرى، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية، يعالجها بالقراءة ويُحصِّنك ضدها فلا تصيبك، وإنْ وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن فإنها تبرأ بإذن الله، إذن: الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس.
ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس؛ لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي، وكل مريض لا يجدون لمرضه سبباً عضوياً يُشخِّصونه على أنه مرض نفسي، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء، وهل هذا هو العلاج؟
ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجيْن: العضوي والنفسي، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحلّ لك أشياء، وحرَّم عليك أشياء، وما عليك إلا أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد، فإنْ كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حَدِّ التًّخمة، فاقرأ في القرآن: {يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31].
ثم تجد في السنة النبوية مُذكِّرة تفسيرية لهذه الآية: (بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه)، فإنْ كان ولا بُدَّ: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه).
فالأصل أن يأكل الإنسان ليعيش، لا أن يعيش ليأكل. وبعض السطحيين يقولون: ما معنى (ثلث لنفَسه)، وهل النفَس في المعدة؟ والآن، ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس.
أما الناحية النفسية، فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها، أو انبساطها عن طبيعة تكوينها، كالبيضة مثلاً لها حجم معين فإنْ ضيَّقْتَ هذا الحجم أو بسطته تنكسر.
وهذا أيضاً أساس الداء في النفس البشرية؛ لأن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن واستواء، وتجد هذا التوازن في منهج ربك- عز وجل- حيث يقول سبحانه: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ...} [الحديد: 23].
فمعنى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ...} [الحديد: 23] الانقباض {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ...} [الحديد: 23] الانبساط. وكلاهما مذموم منهيٌّ عنه، لكن مَن ذا الذي لا يأسى على ما فات، ولا يفرح بما هو آتٍ؟
لذلك نجد البُلَداء الذين لا تَهزهم الأحداث بصحة قوية؛ لأنهم لا يهتمون للخطوب، حتى أن الشعراء لم يَفُتْهم هذا المعنى، حيث يقول أحدهم:
وَفِي البَلادةِ مَا في العَزْمِ منْ جَلَد *** إنَّ البليد قويُّ النفْسِ عَاتيها
فَاسْأل أُوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ *** عَنِ البَلادةِ هَلْ مَادتْ رَوَاسِيهَا؟
فالذي تظنه بلادة هو عزم قويٌّ في استقبال الأحداث والصمود لها.
إذن: الرحمة في منهج الله إنِ التزمنا به نأمن من الأدواء، ماديةَ كانت أم معنوية.