قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيَ أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ * فَلَمّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنّا مُسْلِمِينَ * وَصَدّهَا مَا كَانَت تّعْبُدُ مِن دُونِ اللّهِ إِنّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه، وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جُعل أصفر، وما كان أصفر جعل أحمر، وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله. وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا {فلما جاءت قيل أهكذا عرشك} أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها ثبات وعقل، ولها لب ودهاء وحزم، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر فقالت {كأنه هو} أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم
وقوله: {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} قال مجاهد يقوله سليمان، وقوله تعالى: {وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله أي قال سليمان {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده {ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد: حسنٌ وقاله ابن جرير أيضاً، ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله {وصدها} ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عز وجل تقديره ومنعها {ما كانت تعبد من دون الله} أي صدها عن عبادة غير الله {إنها كانت من قوم كافرين} (قلت): ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي
وقوله: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها} وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير أي من زجاج وأجري تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل: إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه، ذكر له جمالها وحسنها لكن في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة. فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره. فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقاً وأحسنهم قدماً ولكن رأى على رجليها شعراً لأنها ملكة وليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها الموسى فقالت لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك وقال للجن: اصنعوا شيئاً غير الموسى يذهب بهذا الشعر فصنعوا له النورة. وكان أول من اتخذت له النورة، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم
وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله، وقال الحسن البصري: لما رأت العلجة الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكاً أعظم من ملكها، وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال: أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها {فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها} لا تشك أنه ماء تخوضه، قيل لها {إنه صرح ممرد من قوارير}
فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عز وجل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت ؟ قالت أنسيت ما قلت ؟ فقالت {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} فأسلمت وحسن إسلامها. وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثراً غريباً عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن علي عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الإنس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهراً ورواحها شهرٌ، قال فبينما هو ذات يوم في مسير له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} قال: وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض
قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد {فمكث غير بعيد ـ فقرأ حتى انتهى إلى قوله ـ سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا} وكتب بسم الله الرحمن الرحيم، إلى بلقيس {أن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين} فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولوا قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاءت الهدية سليمان قال: أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة، قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد
قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال: وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم. فقال: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال سليمان أريد أعجل من ذلك، فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير، قال فلما رأى سليمان عرشها قال {هذا من فضل ربي} الاَية {قال نكروا لها عرشها} فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سماء. وكان سليمان إذا سئل عن شيء سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال: فقالت الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الاَنية. قال فأمر بالخيل فأجريت ثم أخذ عرقها فملأ منه الاَنية، قال وسألت عن لون الله عز وجل، قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجداً فقال: يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك، فقال: ارجع فقد كفيتكهم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه ؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه ؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء، قال ونسوه كلهم. قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد لم ننفك من عبوديته، قال فجعلوا صرحاً ممرداً من قوارير فيه السمك قال فقيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي شعراء. فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه ؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين النورة. قال فهو أول من جعلت له النورة، ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث (قلت): بل هو منكر غريب جداً ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة. أصل الصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع، قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان {ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب} الاَية. والصرح قصر في اليمن عالي البناء، والممرد المبني بناء محكماً أملس {من قوارير} أي زجاج، وتمريد البناء تمليسه، ومارد: حصن بدومة الجندل، والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلاله ما هو فيه وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، وأسلمت لله عز وجل وقالت {رب إني ظلمت نفسي} أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُواْ اطّيّرْنَا بِكَ وَبِمَن مّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له {فإذا هم فريقان يختصمون} قال مجاهد: مؤمن وكافر كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه} ؟ {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} {قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة} أي لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته ولهذا قال: {لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك} أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيراً، وذلك أنهم لشقائهم كان لا يصيب أحداً منهم سوء إلا قال هذا من قبل صالح وأصحابه. قال مجاهد: تشاءموا بهم وهذا كما قال الله تعالى إخباراً عن قوم فرعون: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} الاَية. وقال تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك * قل كل من عند الله} أي بقضائه وقدره، وقال تعالى مخبراً عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون {قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم} الاَية، وقال هؤلاء {اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله} أي الله يجازيكم على ذلك {بل أنتم قوم تفتنون} قال قتادة: تبتلون بالطاعة والمعصية والظاهر أن المراد بقوله: {تفتنون} أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللّهِ لَنُبَيّتَنّهُ وَأَهْلَهُ ثُمّ لَنَقُولَنّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا دَمّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوَاْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة وهموا بقتل صالح أيضاً، بأن يبيتوه في أهله ليلاً فيقلتوه غيلة، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه: إنهم ما علموا بشيء من أمره، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك فقال تعالى: {وكان في المدينة} أي مدينة ثمود {تسعة رهط} أي تسعة نفر {يفسدون في الأرض ولا يصلحون} وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود، لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم. قال العوفي عن ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة، أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم، وقد فعل ذلك. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: كان أسماء هؤلاء التسعة: دعمى، ودعيم، وهرما، وهريم، وداب، وصواب، ورياب، ومسطع، وقدار بن سالف عاقر الناقة، أي الذي باشر ذلك بيده، قال الله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} وقال تعالى: {إذ انبعث أشقاها}
وقال عبد الرزاق: أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني، سمعت عطاء ـ هو ابن أبي رباح ـ يقول {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} قال: كانوا يقرضون الدراهم، يعني أنهم كانوا يأخذون منها وكأنهم كانوا يتعاملون بها عدداً كما كان العرب يتعاملون. وقال الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض. وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض، بكل طريق يقدرون عليها، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير ذلك
وقوله تعالى: {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} أي تحالفوا وتابعوا على قتل نبي الله صالح عليه السلام من لقيه ليلاً غيلة، فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم، قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا على هلاكه، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين، وقال قتادة: تواثقوا على أن يأخذوه ليلاً فيقتلوه، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم، قال العوفي عن ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة، قالوا حين عقروها: لنبيتن صالحاً وأهله فنقتلهم ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً، وما لنا به من علم فدمرهم الله أجمعين. وقال محمد بن إسحاق: قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثم هموا به فقامت عشيرته دونه، ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقاً فلا تزيدوا ربكم عليكم غضباً، وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون، فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لما عقروا الناقة قال لهم صالح {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث، وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه، فخرجوا إلى كهف، أي غار هناك ليلاً فقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم فخشوا أن تشدخهم فتبادروا، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار، فلا يدري قومهم أين هم، ولا يدرون ما فعل بقومهم، فعذب الله هؤلاء ههنا، وهؤلاء ههنا، وأنجى الله صالحاً ومن معه ثم قرأ {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية} أي فارغة ليس فيها أحد {بما ظلموا إن في ذلك لاَية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوَاْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكور دون الإناث، وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء فقال: {أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} أي يرى بعضكم بعضاً، وتأتون في ناديكم المنكر {أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} أي لا تعرفون شيئاً لا طبعاً ولا شرعاً كما قال في الاَية الأخرى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} أي يتحرجون من فعل ما تفعلون، ومن إقراركم على صنيعكم فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم فعزموا على ذلك، فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، قال الله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين} أي من الهالكين مع قومها، لأنها كانت ردءاً لهم على دينهم وعلى طريقتهم، في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا كرامة لها. وقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم مطراً} أي حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ولهذا قال: {فساء مطر المنذرين} أي الذين قامت عليهم الحجة، ووصل إليه الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا بإخراجه من بينهم