أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي إله، وأشهد أن لا إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إخواني إن الله بعث الرسل لإقامة أعظم معروف وهو التوحيد وتغيير أعظم منكر وهو الشرك،
وأمر الله عز وجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على لسان لقمان لابنه كمثال من الأمثلة على ذلك،
وهو يرسخ في حاسة الولد القيام بهذه الفريضة العظيمة من فرائض هذا الدين،
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِسورة لقمان17
، فبدأه بالأمر بالصلاة، وأتبعها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دلالة على عظم هذه الفريضة وأهميتها ومكانتها في الدين، ولما كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متعرضاً في كثير من الحالات للمجابهة بالأذى أمره بأن يصبر على ما سيلاقي من هؤلاء المأمورين والمنهيين، فقال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، ولا تشيع المنكرات في مجتمع إلا إذا تواطأ أهله على السكوت، وتخاذلوا عن القيام بهذه الفريضة العظيمة، ولا يحل الفساد في أمة ويتبعه عذاب الله عز وجل إلا حين يقصر أفرادها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نوع من الجهاد ولا شك، فإذا كنا قد فقدنا الجهاد الحقيقي فإنه لا ينبغي أن نفقد الآن ونحن نستعد للجهاد الحقيقي لا ينبغي أن نفقد هذا النوع العظيم من الجهاد، وهو جهاد أهل المنكر بتغيير منكراتهم، وأمرهم بالمعروف
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نوع من الجهاد ولا شك، فإذا كنا قد فقدنا الجهاد الحقيقي فإنه لا ينبغي أن نفقد الآن ونحن نستعد للجهاد الحقيقي لا ينبغي أن نفقد هذا النوع العظيم من الجهاد، وهو جهاد أهل المنكر بتغيير منكراتهم، وأمرهم بالمعروف
، ولا يشترط أن يصل أمرك أيها الآمر ولا نهيك أيها الناهي إلى كل العالم، فإذا قمت بما يجب عليك من الأمر والنهي فإنك قد أسقطت الفرض الذي عليك وكان التفريط على الذين لم يلتزموا بما أمرتهم ونهيتهم، أو على الذين لم يصلهم أمرك بتفريط منهم، ولا بد أيها الإخوة لكل آمر وناهٍ أن يتعلم ما هو المعروف وما هو المنكر قبل أن يقوم بالأمر والنهي؛ لأن كثيراً من الناس قد ينهون عن معروف أو يأمرون بمنكر نتيجة جهلهم بحكم ذاك وهذا، فإذا لم يتعلموا ما هو الواجب من المستحب من الجائز من المكروه من المحرم فكيف يستطيعون أن يأمروا وينهوا، ولذلك فإنك تجد مثلاً على مستوى المساجد الآن بعض الذين لا يحسنون الأمر والنهي ويضاف إليهم جهل، قد يأمرون بمنكر أو ينهون عن معروف، ومثال ذلك ما يحدث من بعضهم أن يقوم في الصف أو يتكلم وسط الناس بكلام فج غليظ لا يصلح أن يكون أبداً أمراً شرعياً أو نهياً شرعياً، وذلك بحسب مزاجه هو، فإذا رأى طفلاً يلعب نهى الناس كلهم في المسجد عن اصطحاب أطفالهم مهما كانوا، فيقع في نهي عن شيء من المعروف، نتيجة جهله، إذ الأطفال يتفاوتون فمنهم مؤذٍ لا ينبغي اصطحابه للمسجد لما يشوش ويوقع غيره في الحرج، ومن الأطفال ما يكون هادئاً مسالماً، المصلحة كل المصلحة في أن يأتي المسجد فيشهد اجتماع المسلمين ويتعلم الصلاة، ولا بد للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يتعلم الأدلة الشرعية التي يستطيع بها أن يناقش ويجادل بالتي هي أحسن من يأمرهم وينهاهم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ولو لم يستجب أحد.
أيها الإخوة:
وبعض الناس يقولون: إننا إذا أمرنا ونهينا فإننا نعرف بأنه لن يستجيب لنا المأمور والمنهي، ولا فائدة من الإنكار فإن المنكرات كثيرة جداً، وإن الواقعين فيها آلاف مؤلفة، فلماذا نأمر ولماذا ننهى؟
فالجواب: أيها الإخوة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يزول إذا توقع الشخص عدم الانتفاع منه، بل إنه ينبغي عليه أن يأمر وينهى؛ لأن الله يقول: مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغ ُسورة المائدة99، ولأنك تكون قد قمت بما عليك من الواجب، ولو لم ينتفعوا، ويسقط عنك الإثم بالسكوت ولو لم يستجيبوا، قال الله عز وجل في قوم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقال لهم أناس: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، لماذا تعظون قوماً ليس هناك فائدة من أمرهم ونهيهم، قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْسورة الأعراف164، لكي نعذر عند الله، نحن قمنا بما يجب علينا، ولعلهم يتقون، ثم إننا لا ندري قد يحصل لهم استجابة ولو بعد حين، ولذلك فإن كلمات الآمر والناهي لا تضيع في العادة، ولابد أن يكون لها أثر ولو خفيف، فلو انضاف إليه آثار أخرى من ناس آخرين يأمرون وينهون فقد يجتمع بمجموع هذا الأمر والنهي من الأشخاص المتعددين أثر يتأثر به الأشخاص الذين يستمعون، وقد يقول أناس: كيف نأمر بشيء ونحن لا نلتزم به، وكيف ننهى عن مسألة ونحن واقعون فيها.
فنقول أيها الإخوة: إن هذه الشبهة التي يورثها الشيطان في نفوس بعض المساكين يريد أن يصل الشيطان منها إلى أن لا يأمر أحد بشيء ولا ينهى أحد عن شيء؛ لأننا كلنا بشر، وكلنا مقصرون، ولذلك فلا بد أن تعلموا أن الناس على ثلاثة أقسام: قسم يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويلتزم فلا يقع في المنكر، وهذا أحسن الأنواع ولا شك، بل هذا هو المطلوب من كل مسلم، القسم الثاني: نوع يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويقع فيه، وهذا مذموم؛ لأنه يؤتى به يوم القيامة يدور بأمعائه كما يدور الحمار في الرحى يدور بأمعائه في نار جهنم، والقسم الثالث: لا يأمر بالمعروف ولا يأتمر به، ولا ينهى عن المنكر ويقع فيه، فهذا شر الأقسام الثلاثة ولا شك؛ لأنه لا عمل المعروف ولا أمر به ولا انتهى عن المنكر ولا نهى عنه، فاجتمع عليه إثمان: إثم المنكر الذي يقع فيه، وإثم السكوت عن المنكر، فإذا كنت من المقصرين ولا تأتمر بمعروف في نفسك وتقع في المنكرات فلا أقل من أن تقوم بفريضة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك فإنني أقول قطعاً: أن الذي يأمر بالمعروف ويقصر فيه وينهى عن المنكر ويقع فيه هو أفضل ولا شك من الذي لا يأمر ولا يفعل ولا ينهى ويقع في المنكر.
ومن عرف هذه المسألة فقه أموراً كثيرة يجب على كل واحد منا في هذا المكان أن يفعلها ولو كان مقصراً؛ لأنك على الأقل تقوم بواجب من الواجبات، ولابد من السعي في إزالة المنكرات والاستعانة على ذلك بأهل السلطان، فإن بعض المنكرات لا يمكن إزالتها من الشخص المفرد، فلا بد أن تكون هناك سلطة تزيلها وهم أهل الحسبة، ومن دار في معناهم من الذين يملكون قوة في التغيير، فلا بد في السعي إليهم لعمل هذا التغيير، فكل مسؤول في مكانه وكل أمير في منطقة.
تغيير المنكرات ما أمكن ذلك.
وكل إنسان صاحب أمر ونهي يجب أن يسعى إليه في تغيير المنكرات ما أمكن ذلك، وإليكم هذه القصة مما ذكره ابن حجر رحمه الله في حوادث سنة سبعمائة وثمانين للهجرة، توجه رجل من أهل الصلاح يقال له: عبد الله الزيلعي إلى الجيزة، فبات بالقرب من أبي النمرس فسمع حس الناقوس في جرس النصارى، فسأل عن ذلك، فقيل له: إن بهذه المنطقة كنيسة يعمل فيها كل ليلة مثل هذا الفعل، حتى ليلة الجمعة، وفي يومها والخطيب على المنبر، وهم يفعلون ذلك، فسعى عند جمال الدين المحتسب، وكان له سلطة في هدم هذه الكنيسة، فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها، فتابع الأمر ولاحقه وسعى فيه وجاهد حتى زال المنكر ولم يكتف بذهاب واحد أو كلمة واحدة بل لابد من الاستمرار حتى يحدث التغيير، وإذا ظهر المنكر في مكان بحيث أبصرناه، أو سمعناه، أو شممناه، أو لمسناه، أو ذقناه مثلاً، فلابد من إنكاره، كمن ذاق طعاماً مغشوشاً، فلابد من إنكاره.
ولم توجب الشريعة تفتيش البيوت أو التجسس عن الناس في خباياهم الداخلية، لمعرفة هل يوجد منكر أم لا، وإنما بالنسبة لنا نحن المسلمين أفراد المجتمع لابد من إنكار كل ما يظهر من المنكرات، فإذا كان مستوراً ولم يظهر فليس علينا التفتيش والتجسس إلا إذا ظهرت أمارات المنكر، وفاحت رائحته، ووجدنا علاماته، فعند ذلك ينبغي أن نسعى في إزالته لوجود القرائن، فإذن كل منكر ظاهر لا بد من إزالته، ولو كان في بيت، ولكنه يصل أثره إلى الخارج فلا بد من إزالته.
لم توجب الشريعة تفتيش البيوت أو التجسس عن الناس في خباياهم الداخلية، لمعرفة هل يوجد منكر أم لا، وإنما بالنسبة لنا نحن المسلمين أفراد المجتمع لابد من إنكار كل ما يظهر من المنكرات، فإذا كان مستوراً ولم يظهر فليس علينا التفتيش والتجسس إلا إذا ظهرت أمارات المنكر، وفاحت رائحته، ووجدنا علاماته، فعند ذلك ينبغي أن نسعى في إزالته لوجود القرائن، فإذن كل منكر ظاهر لا بد من إزالته، ولو كان في بيت، ولكنه يصل أثره إلى الخارج فلا بد من إزالته.
وهذه القصة عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، سمع الإمام أحمد رحمه الله وهو في مجلسه حس طبل في جواره فقام إليهم وترك المجلس حتى أرسل إلى أولئك الناس في ذلك المكان الذي يقرع فيه الطبل فنهاهم عن ذلك حتى حصل التغيير، فإذن إذا وصل المنكر إلينا بأي حاسة من الحواس فلا بد أن نسعى في إزالته، ولذلك فإنه قد يقع لك أيها الأخ المسلم من جارك أو من غيره شيء يظهر من المنكرات كحفلة صاخبة أو اختلاط وأناس يصعدون سلالم العمارة وينزلون فيها في غاية التبرج والفسق فعليك أن تسعى إلى إزالة ذلك حتى يحصل التغيير بالمناصحة، والكلام، والأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والزجر، حتى يحصل ذلك ولو لم يحصل التغيير تكون أنت قد أعذرت عند الله في ذلك، وبعضهم قد يستحي منك، يستحي ولا يغير توبة إلى الله، لكن يستحي منك فيغير شيئاً ما، فلا تترك الفرصة وتقول: فعله من أجلي وخجلاً مني، بل افعل لئلا تنتشر المنكرات وتظهر، وأضرب لكم مثالاً على ذلك، قريباً الليلة الماضية عند منتصف الليل سمعت حس موسيقى تصدح من بيت أناس من النصارى من جيراننا في بيت مجاور، وعلمت أنه في هذه الليلة يحتفلون بعيد الشكر، وأنا أقول: بعيد الكفر؛ لأن الله لا يشكر بالموسيقى والرقص والديك الرومي، الله لا يشكر بالموسيقى والرقص والديك الرومي، فنزلت إليه فذهبت إليه فكلمته فاستحى الرجل، وأنا أعلم أنه نصراني كافر لم يفعل هذا من تخفيف هذا الصوت توبة إلى الله، وإنما فعله خجلاً أو حياء، فأقول: إنه في مثل هذه الحالات ينبغي علينا أن نأمر وننهى ولو كان الذي سيكون هو حياءً وخجلاً من الناس وليس توبة إلى الله، وهذا على العموم من مساوئ وجود الكفار وسط المسلمين؛ لأنهم سيجهرون بفسقهم وفجورهم، ولابد من ذلك.
واعلموا أيها الإخوة أن الأسلوب الحسن هو الذي يمكن من قلوب الناس، وهو الذي يقود إلى وقوع الأثر عندهم، وإليكم هذه القصة:
مر محمد بن مصعب العابد بدار فسمع صوت عود يضرب من تحت الدار بالأسفل، فقرع الباب فنزلت جارية، فقال لها: يا جارية قولي لمولاتك أن تحدر العود حتى أكسره، هاتوا العود هذا الذي تعملون فيه المنكر، ووصل أذاكم إلينا، وصل أذاكم إلى الشارع، وصل أذاكم إلى بيوت المجاورين، قال: فصعدت الجارية فقالت لمولاتها: شيخ بالباب قال كذا وكذا، قالت: هذا شيخ أحمق، وهذا نفس الجواب الذي نجده من الكثير من الناس، إذا قلت: يا جماعة اتقوا الله، إذا أردتم أن تفعلوا المنكر ولابد فلا يصلح لكم أن تشاركوا غيركم من الناس الخارجيين في المنكر، أقصروا على منكركم، قالوا لك: أنت رجل متشدد، وأنت شخص متطرف، وأنت أحمق ومجنون، كل الناس يفعلون هذا، سبحان الله العظيم كأن إجماع الناس على شيء يكون به صحيحاً، قال: فهذه المرأة عملت بحنق وغيظ بزيادة فضربت بالعودين فاستعملت أداتين من المنكر لما جاء هذا الشخص الناصح، زيادة في التبكيت له، تريد أن تغيظه، وتقول: تأمرنا بأن نحدر العود، ها نحن ضربنا بالعودين، فماذا فعل الرجل؟ جلس أمام الباب، وقرأ القرآن وكان صاحب صوت مؤثر، وكان صاحب صوت خاشع بالقرآن فاجتمع الناس والتفوا حوله ووقفوا وجلسوا ينصتون إلى صوته بالقرآن، فتأثروا، فبكى بعضهم، فعلت الأصوات بالبكاء، فسمعت المرأة الضجة، فقالت: يا مولاتي تعالي أنزلي واسمعي، فلما سمعت ذلك ورأت اجتماع الناس ومجلس تأثر وقراءة قرآن، وبكاء وخشوع، لا يمكن أن تجتمع ملائكة الرحمن والشيطان في مكان واحد، فلابد أن يغلب الخير، فعند ذلك خجلت على نفسها وقالت: احدري احدري العودين حتى يكسرهما.
قواعد عامة في تغيير المنكرات.
ولا بد أن نعلم أيها الإخوة أن الغرض من إنكار المنكر هو إزالته وإيجاد المعروف، فيجب الوصول إلى ذلك بأسهل طريقة، لو كان عندك طريقتان لإنكار المنكر واحدة شديدة وواحدة بسيطة، واحدة معقدة والأخرى سهلة، وكلاهما تؤديان إلى إنكار المنكر، فلا يصلح أن تستعمل الطريقة الغليظة الشديدة المعقدة، بل عليك أن تستعمل الطريقة السهلة الميسرة؛ لأن هذا الدين يسر، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فالعتب على بعض الذين يستخدمون الشدة والغلظة مع أن بالإمكان استخدام الرفق واستخدام السهولة واليسر إذا كانت تحقق الغرض وإذا كانت تؤدي، لو رأيت إنساناً قد عمل منكراً مثلاً، فتح شبابيك السيارة ورفع صوت هذه الموسيقى في الشارع، يمكن أن تأتي فتسبه وتلعن، ويمكن أن يخجل ويغلق الموسيقى أو يمشي، ويمكن أن تأتي إليه بلطف، فيقول: يا أخي اتق الله عز وجل إن هذا الأمر لا يجوز، ومثلك فيه خير، ومثلك فيه دين، وأنك إن شاء الله ستستجيب وتغلق ذلك، فيمكن أن يفعل نفس الشيء الذي يحدث، بل إنه ربما كانت الشدة مفضية إلى العناد ومقابلة الأمر بعكس ما يتمنى الآمر المعروف والناهي عن المنكر.
ولا بد أن يفقه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه لا بد أن يبدأ بالمنكر الأكبر ذا الشر المستطير، في الشر المستطير، فلو رأيت رجلاً لا يصلي ويعمل الفواحش فعليك أن تبدأه بالأمر بالصلاة قبل النهي عن الفواحش؛ لأن ترك الصلاة كفر، وفعل الفواحش من الكبائر، ولا شك أن الكفر المخرج عن الملة هو أعظم من الكبائر عند الله عز وجل، وكذلك لو اجتمع منكران، منكر يحدث الآن ومنكر لا يحدث لكن يمكن أن يحدث، فعليك أن تبدأ بالمنكر المباشر الذي يحدث الآن، وهذا لا يعني البدء بالمنكر الأكبر لا يعني أن تترك المنكر الآخر، ولا بد أن يأتي الوقت المناسب لتنكر المنكر الآخر وجميع المنكرات، وإنكارك للكبائر مقدم على إنكار للصغائر ولا شك، والمنكر الذي يكون ضرره أعم وشره مستطير لابد أن يكون إنكاره قبل المنكر محدود الأثر، الذي ربما لا يتعدى أثره صاحبه، فمثلاً قد يكون إنسان يسرق أموال الناس ويسكر بها، فهذا ظلم غيره، وظلم نفسه، فلابد أن يقدم في الإنكار على من كان يعمل منكراً ضرره على نفسه فقط مع وجوب الإنكار في جميع هذه الحالات.
وكذلك فإنه لا يجوز أن ينهى الإنسان عن منكر إذا أدى إلى منكر أكبر منه كما قال الله عز وجل: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍسورة الأنعام108، فسب آلهة المشركين لا شك أنه جائز، بل ربما مستحب أو أكثر، لكن لما كان المسلمون في العهد المكي إذا سبوا آلهة المشركين قام المشركون بسب الله عز وجل فنهى الله المسلمين عن سب آلهة المشركين لا لأن آلهة المشركين حسنة، ولا لأن سبها لا يجوز، كلا، بل لأن سبها يوصل إلى منكر أكبر من المعروف الذي يحصل بسب آلهة المشركين، والمنكر الأكبر هو سب المشركين لله عز وجل، وهذا مثاله أن يكون شخص يعمل خطأ في عبادة من العبادات ولو أنكرت عليه لترك العبادة كلها، ففي هذه الحالة لا تنكر عليه.
واعلموا أن السبب أيها الإخوة ليس من الإنكار في مثل الحالات هذه وإنما من أسلوب الإنكار، بعض الناس قد ينكر بالعنف والقوة فيؤدي إنكاره إلى منكر أعظم من إلحاق الضرر به، أو بغيره من المسلمين.
لذلك فإنني أوصي جميع إخواني الذين عندهم التحرق لأداء هذه الفريضة أن لا يعمدوا إلى العنف، ولا إلى استخدام القوة إذا كان ذلك مؤدياً إلى ضرر أعظم من ذلك، وكثير من الأحوال في المجتمعات الحاضرة يؤدي إلى منكر أعظم من ذلك، فلابد من الحكمة، وإذا لم تستطع باليد أو كان التغيير باليد سيؤدي إلى منكر أكبر فلا يجوز أن تسكت، والساكت عن الحق شيطان أخرس، أنكر باللسان، تكلم، انصح، ازجر، رغب، ورهب، وجادل بالتي هي أحسن، لابد أن يكون الإنكار باللسان على الأقل في مثل هذه الحالات، فإذا لم يمكن ذلك أبداً فإن الإنسان ينتقل إلى الإنكار بالقلب، والإنكار بالقلب موجود في جميع الحالات، الذي ينكر باليد لابد أن يكون منكراً بالقلب، والذي ينكر باللسان لابد أن يكون منكراً بالقلب، وإلا كان إنكاره فيه نظر أصلاً، وكان فيه ربما هوى أو شهوة.
وبالاختصار: فإننا مقصرون أيها الإخوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جداً، وبعض الناس يقولون: فرض كفاية، نقول: هل تحقق فرض الكفاية الآن؟ هل قام، هل حصل المعروف وزال المنكر، وبعض الناس يقولون: هذه وظيفة الهيئة ما لنا شغل، نقول: أنت مسكين، أين تعيش؟ هل الدين مقصور على بعض الناس، الهيئة يمكن أن تستخدم القوة في بعض الأشياء من السلطة المعطاة لكن أنت عليك أن تنكر، باقي عند الإنكار باللسان، ومنكرات البيوت التي تستطيع أن تغيرها باليد يجب أن تغيرها، ما سقط عنك الفرض بوجود بعض المحتسبين، بل إن المنكرات أكبر من المحتسبين، وينبغي أن يكون السعي من الجميع في إزالتها.
أيها الإخوة:
إننا نقول، كل واحد يقول: غيري سينكر، ويسكت هو، وفي النهاية تنخرق السفينة ويغرق الجميع، وصار حالنا كحال القبيلة التي عرفت بالبخل فلما جاءهم ضيوف قال قائد القبيلة: هذا خزان كل واحد يسكب دلواً من الحليب حتى يجمعوا لهؤلاء الضيوف، فسكب كل واحد دلواً وفي الصباح فتحوا الخزان فوجدوه كله مملوء بالماء، لماذا؟ لأن كل واحد من هؤلاء البخلاء قال: أنا أضع دلو ماء ولن يؤثر، والكل سيضعون دلواً من الحليب ولن يكتشف الأمر، وسيضيع دلوي وسط هذا الحليب، فإذا بهم كلهم من هذا الجنس وكلهم وضع دلواً من ماء، فصار الخزان مليئاً بالماء لا بالحليب المغذي، ومسألة التواكل، وكل واحد يقول: غيري سيفعل، وليس شغلي، هو الذي أوقعنا في هذه الورطات، وأوصلنا إلى هذه المهاوي.
أيها الإخوة: لو قال إنسان من الناس: إن المنكرات كثيرة جداً جداً، يفوق الوصف عدها، ويفوق التخيل ذكرها، فمن أين نبدأ؟ وكيف نعلم أهم المنكرات لننكرها، إذ أننا لو اشتغلنا بإنكار المنكرات الآن لما انتهينا أبداً، لكثرتها وتنوعها، وتعدد أجناسها وأحوال المخالفين الواقعين فيها، فنقول وبالله التوفيق:
أيها الإخوة: لا شك أن علماء الإسلام قد بينوا كثيراً من الضوابط التي تحدد كيف يبدأ المسلم وبأيها يبدأ؟ فمثلاً لو كان هناك منكر ظاهر، ومنكر خفي، فلا شك أنك ستبدأ بالمنكر الظاهر ولابد؛ لأن شيوع المنكرات يخرب المجتمعات، ولأن الناس إذا رأوا الظالم ورأوا صاحب المنكر فلم ينهوه عن منكره فإن الله يوشك أن يعمهم بعقاب، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث)، يعني: إذا ظهر وانتشر فلابد من مقاومة كل منكر ظاهر، وكل سيئة منتشرة حتى لا يعمنا عقاب الله عز وجل.
أيها الإخوة:
ومن الأمور كذلك البدء بالمنكرات الكبرى، فمثلاً إذا اجتمع لدينا منكر متعلق بالشرك ومنكر متعلق بكبيرة، ومنكر متعلق بصغيرة، فإنه لابد أن نبدأ بالمنكر المتعلق بالشرك؛ لأن الشرك أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ثم ننكر المنكر المتعلق بالكبيرة، كبائر الإثم والفواحش، ثم المنكر المتعلق بالصغيرة اللمم.
ومن الذي يحدد ذلك، ومن الذي يميزه؟ لا بد من الرجوع إلى النصوص الشرعية التي تبين هل هذا من المنكرات الكبيرة أو من الصغيرة، ماذا توعد الله صاحبه، وماذا أعد له من العذاب، وهل عليه لعن أو غضب أو سخط من الله عز وجل، وهكذا هو، ولذلك فإنك تجد المنكرات العظيمة في الشريعة كالربا والزنا مثلاً رتب عليها من العقوبات وذكر أصحابها باللعنات ما لم يذكر أصحاب المنكرات الأقل من ذلك، كالذي ينظر إلى المرأة الأجنبية مثلاً، فكلاهما منكر، لكن الشريعة من دقة الشريعة وحكمة الشريعة أنها رتبت على الزاني والمرابي مثلاً من العقوبات ما لم ترتبه على الناظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأن هذا أكبر من هذا، ولأن هذا ضرره أكبر من هذا، لأن هذا فيه أكل حقوق الناس، وفيه إفساد للمجتمع أكثر من الآخر، مع أن الكل حرام، الكل يجب إنكاره، لكن لابد أن نعطي الإنكار بحسب الجرم، لابد أن يكون الإنكار، لابد أن يكون عظم الإنكار بحسب الجرم، فلا ننكر بشدة على المنكر الصغير، ولا ننكر بخفة على المنكر الكبير، ومن فعل ذلك فقد جانب الحكمة.
أيها الإخوة:
وبعض المنكرات قد لا يكون لها نص واضح في الشريعة، لكنها تعرف بالرجوع إلى ما يماثلها، أو يقاربها، أو إلى أدنى الكبائر لتعلم ما هي، فمثلاً من لطخ الكعبة بالقاذورات أو رمى المصحف في القمامة لم يرد في الشريعة نص في هذا الرجل الذي يفعل هذا الفعل، لكنك لو أخذت هذه الجرائم وقارنتها مثلاً بأكل مال اليتيم فأيهما أكبر؟ فلا شك عندك بأن تلطيخ الكعبة بالقاذورات أو رمي المصحف في القمامة أعظم من أكل مال اليتيم، مع أن أكل مال اليتيم من الكبائر كما ورد في السبع الموبقات، فنعلم حينئذ أن هذه من أكبر الكبائر، وأكبر من كبيرة أكل مال اليتيم، وهكذا ما لو أمسك امرأة لغيره ليفعل بها الفاحشة، أو أمسك رجلاً لغيره ليقتله، أو من دل عدواً على ثغرة من ثغرات المسلمين ليقتحم على المسلمين مثلاً فيقتل رجالهم ويسبي نساءهم، ويخرب بيوتهم، ودورهم، فهذا إذا قارنته بمن تولى يوم الزحف لوجدت أن عقوبته أشد وأن جرمه أعظم، ولذلك يكون منكره أكبر من هذا، مع أن التولي يوم الزحف من الكبائر، ثم أن هناك منكراً حاضراً ومنكراً غائباً، فإذا شهدت المنكر فلابد أن تغيره لقوله عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع)، الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بأنه ستأتي أزمان لا يستطيع الناس أن يغيروا المنكرات بحريتهم، (فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بأن هناك أزمان ستأتي لا يستطيع الإنسان أن يجهر فيها بكلمة الحق، وقد لا يستطيع أن يقول: هذا باطل، ولذلك قال: (فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فالإنكار بالقلب مستمر في جميع الأحوال لا يمكن أن يتوقف، ولا بد من الموازنة بين هذه القواعد والضوابط، فلذلك توجد منكرات كبيرة، لكن قد تكون غائبة عني الآن وأنا أشاهد منكر أمامي، فلا أقول: إن ذلك المنكر الكبير يمنعني من إنكار هذا المنكر الذي أمامي، فمثلاً إن العدوان على المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين قبل ذلك من أشد المنكرات ويجب تغييره، ولو رأيت رجلاً أمامك متختماً بالذهب أو مسبلاً ثوبه أو يتعاطى التدخين هذه منكرات لو قارناها بتلك صغيرة جداً، لكن لو رأيناها أمامنا هل نقول: لا ننكرها لأن هناك منكرات أكبر منها في مكان آخر؟ فلا بد من الإنكار (من رأى منكم منكراً فليغيره)، ولا يسمى هذا ضياع وقت ولا اشتغال بالترهات، بل إننا ننكر الجميع ونحن سائرون في الخط، ونحن نعد العدة للجهاد في سبيل الله وإخراج اليهود من بلاد المسلمين، ومعاونة الأفغان، وغيرهم من المجاهدين في سبيل الله في هذا الطريق، طريق الإعداد، وجمع التبرعات، والتأييد، والنصرة، والقيام بالحقوق في هذا الطريق إذا رأينا منكرات لابد أن نغير، ولابد أن ننكر، ولابد أن تستمر العملية ماشية وهكذا؛ لأنه لا يمكن للمسلم الحر الكريم الذي يتبع الصراط القويم أن يسكت إذا رأى منكراً؛ لابد أن يتكلم لا بد أن تكون في صدورنا حرقة وجمرة من نار غضب تغلي لله عز وجل، غضب لله، لا يمكن أن يشعر الإنسان بالطمأنينة والراحة وهو يرى أمامه المنكرات، لابد أن يفعل شيئاً، لابد أن يقول لله ولو كلمة، لابد أن يقوم لله ولو بنصيحة، لو استمرأنا المنكر فتعودنا عليه كما حصل فإن عقوبة الله آتية، آتية، وانتظروا وإنا معكم منتظرون، ولذلك ينبغي أن نسارع برفع أسباب العذاب حتى لا يقع.
وينبغي أيها الإخوة: أن نفرق بين ما يفوت إنكاره وبين ما لا يفوت، فإذا كان الشيء الآن أمامك لو سكت عنه الآن لفات الإنكار؛ لأنه قد يزول سببه بعد قليل، أو قد يذهب منك الشخص، لا بد أن تنكر الآن؛ لأن أسباب المنكر حاضرة أمامك الآن، فماذا تقول؟ لابد أن تنكر، (من رأى منكم منكراً فليغيره)، وكذلك فإن الإنسان قد يؤجل الإنكار أحياناً لمصلحة، مثل: تأليف القلوب، ومثل أنك لو أنكرت على شخص كل المنكرات التي يفعلها الآن فربما ينفر، أو ينفر منك، فأنت تبدأ معه بمنكر اليوم، وتغير بعد يومين أو ثلاثة، أو أسبوع أو أسبوعين، أو شهر أو شهرين بحسب حاله وبحسب تقبله وهكذا، هذا لا يسمى إلغاءاً للإنكار، ولا يعتبر هنا ساكتاً عن الحق فهو شيطان أخرس؛ لأنه يتعامل مع الشخص الآخر بالحكمة، فمثلاً لو رأيت رجلاً الآن يعمل منكرات كثيرة فبدأت معه بالمنكر الأكبر أو الأهم، والقريب إلى نفسه لكي يحصل بعد ذلك منه القبول فإن هذه تسمى حكمة، ولكن لابد من مراعاة ما يلي: أن يكون التأجيل لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء الإنكار، بل إنك تنوي في قلبك أنه لابد أن يأتي اليوم الذي تنكر عليه المنكر الذي أنت تؤجله الآن، لابد تنوي بقلبك، وإلا فأنت مستهزئ ومتلاعب. ثانياً: أن يكون الشخص فعلاً لا يتحمل الإنكار، ولذلك لا يصح أن يبنى على المفاسد المتوهمة، وأن تقول: إنه ينفر، إنه كذا، إنه لا يتحمل، وقد يكون يتحمل، وقد يكون لو نبهته لقال: جزاك الله خيراً على التنبيه، والله إني أريد من يرشدني، وإنني مسرور بنصيحتك، وإنني ألومك وألوم غيرك من أهل الخير لماذا لم ينبهوني من قبل؟ ألم يحصل هذا؟ نعم يحصل في الواقع، هناك أناس يتقبلون، فلابد أن نعطيهم ولابد أن نعلمهم ولا نقول بمفاسد متوهمة، لعله ينفر، لعله كذا، لعله، وهذه (لعله) ربما قتلت كثيراً من الواجبات، وكذلك ينبغي أن لا يفهم من سكوتك عن المنكر الذي تؤجل إنكاره الآن أنك موافق عليه، ينبغي أن لا يفهم من سكوتك عن المنكر الذي لا تنكره الآن لمصلحة أنك موافق عليه. وهذه مسألة صعبة. وخصوصاً عندما تسأل، وإذا سئلت أن تبين، والله أخذ العهد على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ولذلك فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أبداً، ونحن نبلغ، مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُسورة المائدة99، تقبل الناس أو لم يتقبلوا فأنت لا تتحمل النتيجة بأي حال من الأحوال.
وكذلك فإنك في بعض الحالات تعلم بأنه لا مصلحة من تأجيل الإنكار أبداً، كما إذا رأيت شخصاً في طائرة يفعل منكراً من المنكرات سيهبط في بلد وأنت في بلد، أو ينفصل عنك ويفترق ولن تقابله بعد ذلك، فهل تقول: لو أنكرت عليه الآن يمكن ينفر مني، ويمكن لا يتقبل في المستقبل؟ وأنت متى ستكون معه حتى يتقبل أو لا يتقبل، في فرق أن تصاحب شخصاً فتنكر عليه الآن منكراً، وبعد أيام منكر آخر، وهكذا وأنت مصاحب له، فرق بين هذا وبين شخص لا تقابله إلا هذه الساعة، فماذا تفعل؟ لا بد أن تنكر ولا بد أن تقول له: يا أخي إن كلامك بهذه الطريقة مع المضيفة لا يجوز، وإن حملقتك بعينيك في هذه المضيفة حرام، وهكذا.
ولا بد أن نتدرج بالإنكار كما أمر الشارع، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، إن كان التغيير باليد ممكناً، (فإن لم يستطع فبلسانه)، وهكذا.
ومن أمثلة التغيير باليد ما فعله بعض العلماء لما مر بصبيان يقتتلون في الشارع، أو أناس يقتتلون يتضاربون بالأيدي ففرق بينهم، هذا اسمه تغيير باليد، ففرق بينهم؛ لأنه يستطيع أن يفرق، وهكذا، وإذا لم يمكن التغيير باليد ولا باللسان وأنت في المجلس وقد حصل المنكر أمامك فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًاسورة النساء140، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر)، وليس للإنسان أن يحضر أماكن المنكرات التي يشهد فيها المنكرات، ولا يمكنه الإنكار، لا يجوز له أن يحضر إلا لموجب شرعي مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه، لابد من حضوره أو أن يكون مكرهاً في الحضور في ذلك المجلس الذي يفعل فيه المنكر، وهذه مسألة لابد من مراقبة الله فيها، فإن هناك أناس يقولون: لابد أن نحضر، وليس من الضرورة أن يحضروا أبداً، ولابد من تحمل الأذى الناتج عن إنكار المنكر، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِسورة لقمان17.
والأذى لابد أن يحصل لابد أن يحصل عاجلاً أو آجلاً، ونادراً ما تجد إنسان يأمر وينهى ولا يتعرض لأذى ولو كلمة سخرية، ولذلك وطنوا أنفسكم على تحمل ما تصابون به من أجل القيام لله بهذا الواجب، ثم أنه إذا ترتب على الإنكار مضرة بالآخرين لم يجز للإنسان أن يلحق الضرر بهم، وإن كان هو يتحمل، فإن الإنسان يمكن أن يتسامح في حق نفسه لكن لا يمكن أن يتسامح في حق الآخرين، فلو ترتب على إنكارك مفسدة تلحق بالمسلمين، أو جماعة منهم، أو بأهل الدين وطريق الاستقامة، فإنه لا يجوز لك أن تغير بإلحاق الضرر بهم إذا كان كبيراً، ومثال على ذلك لو فرض أن هناك مركز إسلامي في الخارج وبجانبه مكان لبيع الأصنام والتماثيل فقام واحد من المتحمسين في ذلك المكان في المركز، وذهب إلى مكان بيع التماثيل والأصنام فكسرها، فترتب على ذلك إغلاق المركز بالكلية، فهل يعتبر في عمله حكمة؟ لا؛ لأن المنكر الذي غيره وكسره بالنسبة للمعروف الذي فات شيء بسيط جداً، فلا يعتبر هذا من الحكمة أبداً، ومن تأمل في هذا المثال خطر بباله أمثلة أخرى كثيرة.
وكذلك فإننا عندما ننكر لابد أن نقدم الإنكار في الجرائم التي فيها ظلم للنفس وللآخرين، على الجرائم التي فيها ظلم للنفس فقط، فلو فرض أن رجلاً يسرق أموال الناس ويسكر بها، هذا ظالم للناس وظالم لنفسه، فلابد أن نبدأ به في الإنكار قبل أن نبدأ بمن يسكر بماله هو، مثلاً.
وكذلك لا يجوز النهي عن منكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ومن أمثلة هذا، وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ، لا تسبوا أصنام الكفار إذا كان فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍسورة الأنعام108، في مرحلة من مراحل الدعوة المكية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يهزؤون بأصنام كفار قريش، فصار الكفار يسبون إله المسلمين فقال الله لهم: لا تسبوا أصنام الكفار الآن؛ لأنهم سيسبوا الله، وسب الله مفسدته أعظم من مصلحة سب آلهة المشركين، فلذلك قال لهم: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍسورة الأنعام108، وهكذا قس عليه، ومن أمثلة ذلك لو أسلم عندنا كافر، فلو قلنا له: يجب عليك الختان لنفر من الدين، فهل نأمره بالختان والختان واجب، هل نأمره بالمعروف إذا كان أمره بالمعروف سيؤدي إلى خروجه من الدين وعدم تحمله العملية الجراحية التي قد ينتج منها نزيف؟ الجواب: لا بطبيعة الحال.
وكذلك لو قلنا له: زوجتك بوذية يجب أن تنفصل عنها؛ لأن الله حرم على المسلم أن يتزوج بالكافرة، وهذه بوذية ليست محصنة من أهل الكتاب، لو محصنة من أهل الكتاب ما في إشكال، لكن ما دامت كافرة من نوع آخر بوذية هندوسية مجوسية ملحدة، ليس لها دين مرتدة، فلو قلنا له: إذا أردت أن تسلم لابد أن تنفصل عن زوجتك، فسيتراجع عن الإسلام؛ لأن عنده أولاد منها، فهل نأمره بتطليقها أو فراقها؟ ليس من الحكمة؛ لأننا لو أمرناه بذلك لصار بناء على أمره بالمعروف هذا مفسدة كبيرة أكبر وهي خروجه عن الدين، أو تركه للدخول في الإسلام أصلاً، بل نقول: يسلم على ما هو فيه من ترك الختان الذي لا يطيقه، هذا أهون بكثير جداً من أن يبقى على كفره، ننقذه من النار، ولو كان عنده معصية، لكن لا نقره عليها.
لو قال واحد: أنا أريد أن أسلم أيها الناس لكن لا بد أن تسمحوا لي بشرب الخمر؛ لأنني لا أطيق ترك الخمر، فماذا نقول له؟ لو قال له إنسان: ما يهم يا أخي اشرب الخمر، بالعكس طيب اشرب الخمر، هذا يعتبر مهزلة، لكن لو قال له الإنسان الحكيم المسلم: اسلم أولاً، فيسلم، وبعد ذلك ننصحه فيشرب الخمر، لكن أن نقره على شرب الخمر من البداية غلط؛ لأن الله حرم الخمر ولا يمكن أن نقره على شرب الخمر، لا يمكن، لكن نقول له: اسلم الآن؛ لأن إسلامك أهم الآن من قضية شرب الخمر، اسلم الآن، أنقذ نفسك من الخلود في النار، وبعد ذلك هذه معاصي وكبائر يعذب الله عليها، لكنك تدخل الجنة في يوم من الأيام أحسن من أن تبقى كافراً فتخلد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً.
أيها الإخوة:
لابد من اللجوء إلى أهل العلم والخبرة في إنكار المنكرات العظيمة لتبين ما يترتب عليها من الخير أو الشر، إذ أن كثيراً من المتحمسين يحتاجون إلى ترشيد وحكمة مصدرها أهل العلم والخبرة، ولابد أن نكون في الوقت الذي نحن فيه في أشد التحمس للإنكار أن نكون في أشد الحرص على تبين عواقب الأمور، في الوقت الذي نتحرق شوقاً فيه للإنكار فلابد أن نكون في الوقت نفسه في أشد الحرص على معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالأمر والنهي وتبين العواقب واستشارة أهل الخبرة في ذلك، ولكن بعض المنكرات ولا شك لا تحتاج فيها إلى استشارة ولا إلى زيادة علم لبيانها ووضوحها، ولا يمكن إذا رأيت أناساً لا يصلون في المسجد يلعبون في الطريق أن تقول: يحتاج أن أسأل عنهم، فإنك لابد أن تقول لهم: قوموا إلى الصلاة، لابد، وعند الناس جبن وعند الناس خور، فلابد من إزالته، لابد من الجرأة على إنكار المنكر وعلى تغييره كما أمر الله عز وجل، ولذلك فإننا نقول: إذا كان الإنسان ماراً فرأى منكراً فلا بد أن يسعى لتغييره ويسعى إلى إزالته بالكلية لو تمكن، وهذا من قواعد الشريعة؛ لأن بعض الناس يزيلون المنكر مؤقتاً، لكن أسباب المنكر لم تستأصل، بعض الناس يسكتون المنكر لكن إسكات مؤقت؛ لأنهم لم يستأصلوا أسباب المنكر، ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى قومه قد عبدوا العجل ماذا فعل بالعجل؟ هل أخذه فأخفاه على جنب ووضعه في الخزينة ليستفيدوا منه في المستقبل؟ لا، وإنما أخذه وقال للسامري: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًاسورة طه97، فأخذه فبرده وحرقه وكسره وتحول إلى ذرات ثم ذره في البحر في أماكن متفرقة حتى صار لا شيء، ليس له وجود على الإطلاق، ولا يمكن إعادة تجميعه أبداً، ولا يمكن إعادة تجميعه مطلقاً، فإذا أنكرنا المنكر فلا بد أن نجتثه من جذوره، وأن نزيله بالكلية بحيث لا يرجى له عودة، نأخذ مثلاً بسيطاً جداً، هب أنك رأيت صورة عارية في يد إنسان فأخذتها فلو مزقتها قطعتين لسهل عليه أن يلصقها من جديد، لكنك لو أحرقتها بالنار أو قطعتها إلى قطع صغيرة جداً فلا يمكن أن يعيدها، هذا مثل بسيط، ولو قست لوجدت في الواقع أمثلة كثيرة لهذه القضية. فالمسألة ليست إسكات مؤقت، ولا تربيت على الأكتاف ولا تطمين للناس بالباطل، لا، وإنما المطلوب إزالة المنكر من أصله، ولكن إذا قال لنا إنسان: لا يمكن أن أزيله من أصله، لكن ممكن أن أخففه، أفعل أو لا أفعل؟ نقول: افعل ما يمكنك من تخفيفه، لو قال إنسان: لا يمكن أن أمنع أهلي بالكلية من مشاهدة البرامج والمسلسلات الفاسدة، لكن يمكن أن أحد من ذلك، أفعل أو لا أفعل؟ نقول: افعل، فما لا يدرك كله لا يترك بعضه، فافعل.
وكذلك فإنه لا بد أن نعلم مسألة مهمة وهي أن الإنكار لا يجوز في مسائل الاجتهاد، لا بد أن يكون في المسائل الواضحة الحرمة، فمثلاً إذا رأيت شخصاً لا يقرأ الفاتحة خلف الإمام، فهل تنكر عليه وتقول: أنت آثم؟ لا؛ لأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وكذلك وضع اليدين بعد الرفع من الركوع هل يضع أو لا يضع؟ ليست محلاً للإنكار؛ لأن فيها خلاف بين العلماء، وكل طائفة من أهل العلم لهم أدلتهم القوية، ومثلاً النزول في الصلاة على الركبتين أو اليدين ليست محلاً للإنكار؛ لأن هناك من العلماء من يقول: ينزل على اليدين أولاً يقدم اليدين، ومنهم من يقول: يقدم الركبتين، ولكل من الفريقين أدلة قوية، فهذا ليس مجال إنكار أبداً، لا يجوز الإنكار فيه، لكن مباحثة ومناصحة ومحاورة لعلنا نصل إلى نتيجة في معرفة الأقوى فقط، مناصحة ومباحثة.
لكن بعض المسائل حصل فيها خلاف والخلاف مرجوح ولا بد من الإنكار ولو كان هناك من يقول بالقول الآخر، مثال المعازف بعض الناس قالوا وهم قلة جداً ممن عندهم علم، قالوا: بأن المعازف ليست بحرام، وقال جماهير علماء الأمة إن المعازف محرمة والحديث في البخاري وغيره، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِسورة لقمان6إلى آخره، فالأدوات الموسيقية هذه محرمة ومعروف ومنتهي أمرها عند العلماء، لكن هناك طائفة قليلة منهم من قال: إن المعازف ليس فيها شيء، وهناك من يفتي في بعض الشاشات وبعض المحطات، يقول: المعازف ليس فيها شيء، وهم من أهل العمائم وغيره، طيب هل نقول الآن: لا يجوز الإنكار؛ لأن هناك واحد من الناس قال في مجلة أو جريدة: إن المعازف ليس فيها شيء، لا، ولكن لأن النص فيها واضح، وكلام أهل العلم الثقات فيها واضح، فلا بد من الإنكار فيها، ولا يعني إذا خالف واحد أو اثنين أو ثلاثة من الناس خصوصاً إذا كانوا من المحدثين هؤلاء المتأخرين الذين يريدون أن يغيروا أصول الإسلام أو أن يعلبوا بالأحكام الشرعية، أو يقولوا: نسهل على الناس حتى يدخلوا في الدين، ولا يعلمون أنهم يدخلونهم من باب ليخرجوا من باب آخر، نقول: ولو قال فلان وفلان وفلان، فإن الأدلة كيت وكيت وكيت، ولذلك لا يمكن أن نقيس مسألة المعازف على مسألة النزول على اليدين أو الركبتين، هذه الخلاف فيها سائغ النزول على اليدين أو الركبتين، طائفة من العلماء قالوا: هذا، وطائفة قالوا هذا، كلهم عندهم أدلة قوية، لكن المعازف ليس هناك فريق من العلماء عندهم أدلة قوية تكافئ أدلة الذين يقولون بالتحريم، ومن فقه هذه المسألة عرف ما هو المقصود، ثم إن هناك كثير من المسائل قد حصل فيها خلاف بين أهل العلم، لكن الخلاف فيها قد يكون مرجوحاً غير مأخوذ به، فمثلاً إذا مس الختان الختان في الجماع لكن لم يحصل إنزال يجب الغسل أو لا يجب الغسل؟ في بعض العلماء قالوا: لا يجب الغسل إلا إذا أنزل، وإذا ما أنزل ولو وطئ لا يجب عليه الغسل، لكن هذا الكلام مرجوح؛ لأنه مخالف لدليل صحيح آخر (إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل) (وإن لم ينزل)، فهل نأخذ بقول الطائفة هذه التي تقول: ليس عليه غسل لمجرد أن هناك من قال به أو أننا نأخذ ما وافق الدليل وننكر على من لم يغتسل إذا وطئ بغير إنزال، ننكر عليه طبعاً، أرجو أن تكون هذه المسألة قد علمت.
أيها الإخوة:
إن الله سبحانه وتعالى أمر بإزالة المنكر حتى لا يبقى، وعلى رأس المنكرات الشرك، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌسورة البقرة193، والفتنة هي الشرك، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِسورة البقرة191، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهسورة الأنفال39، فلا بد أن يسعى المسلم في إزالة المنكرات ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يبدأ بالمنكر الأكبر ثم ما يستطيع فعله من المنكرات الأخرى وما تمكن من إنكاره من المنكر الأكبر أنكره ولا بد، ولا يتوقف، وهو في البيت، أو الشارع، أو السوق بحسب قدرته إذا رأى منكراً أن ينصح صاحبه عله يزول.
https://almunajjid.com/6444https://almunajjid.com/6444