عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
( البركة ) خيرٌ دائم .
فكلٌّ يرغب بها ، و يتمنى ( البركة ) في أحواله و أيامه .
لكن كون المرء ذاته يكون هو ( البركة ) مما يُسْتَغْرَب و يُتَعَجَّبُ منه .
و لا عَجَب إذ كان عيسى ابن مريمَ قد قال _ كما حكى الله عنه _ : { و جعلني مباركاً أينما كنت } .
و المعنى : معلِّمَاً للخير .
و كل ما قيل في المعنى فهو عائدٌ إلى هذا .
فأخبر عيسى _ عليه السلام _ عن كينونته مبارَكَاً أينما كان .
و مما لا شكَّ أن كلاَّ يرغب في صيرورته مبارَكَاً في المكان الذي هو فيه ، و المجتمع الذي يعيشه .
و لقد كشَف ابن القيِّم عن عملِ ( المُبَارَك ) فقال : ( فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ ، و نصحه لكل من اجتمع به ، قال الله _ تعالى _ إخباراً عن المسيح : { و جعلني مباركاً أينما كنت } أي : معلماً للخير ، داعياً إلى الله ، مرغباً في طاعته .
فهذه من بركة الرجل ، و من خلا من هذا فقد خلا من ( البركة ) ، و مُحْقَتْ بركة لقائه و الاجتماع به ، بل تُمْحَقُ بركة من لَقِيَه و اجتمع به )
انظر : رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ؛ ص 5 .
و ( البركة ) إذاً أنواع متنوِّعة ، و أقسامٌ شتى ، يجمعها أمورٌ :
الأول : (البركة ) في النفس .
و لا يستريب عاقلٌ أن مراعاة المرء ( البركة ) في نفسه، وتربيتها و تنميتها أولى من مراعاتها في غيره.
و ( البركة ) في النفس تشملُ أصولاً ثلاثاً :
الأول : ( البركة ) في الإيمان .
و أعني بها : القُرُبات و الصالحات . ( البركة ) فيها حِرْصُ المرء على أن يكون من أهل الطاعات و الصالحات ، ذا برٍّ و تُقى .
الثاني : ( البركة ) في العلوم .
و المعني : تنمية العقل و الذهن بما ينفعه من العلم .
الثالث : ( البركة ) في التعامل .
و هو فيما يتعلَّق بجانب الخُلُق ، و الأدب .
و هذه الأصول جوامعُ ( البركة ) في نفس الرجل .
الثاني : ( البركة ) في المكان .
لا يخلو المرء من مكان يقطنه ، و أرض يطأها ، و الناس في ذلك أبناءُ عِلات _ تجمعهم طبيعة الركون إلى الأرض ، و يختلفون في أجناس الأراضين _ .
و المُوَفَّقُ من كان في الأرض الحالِّ بها ( مُبارَكاً ) و ( مُبَارِكَاً ) فيها .
و كونه ( مُبارِكاً ) فيها أي : أن يكون آتياً بأعمالٍ ثلاث :
الأول : ناشراً عِلماً مُهْمَلاً .
الثاني : مُحْيياً طاعةً مُمًاتةً .
الثالث : نافياً معصيةً .
و لابدَّ من كونه ذا :
• حكمةٍ في التبيلغ .
• علمٍ فيما يدعو إليه .
• رحمةٍ بمن جانب طريق الطاعات .
الثالث : ( البركة ) في الزمان .
هذا ظرفٌ ثانٍ يكتنف الناس ، و إيجادُ ( البركة ) فيه من جهة أن يكون الزمان محلاً مناسباً لإيجاد ( البركة ) فيه .
و الأزمنة أقسام :
الأول : أزمنة خاصة ؛ فيُرَاعى فيها ما يليق بمن هي خاصةٌ به .
فمثلاً : الإجازات ؛ زمانٌ خاصٌّ ، فكلُّ واحد له عملٌ في زمنه .
فيأتي ( المُبارَك ) فيجعل زمن المرء ( مُبارَكاً ) بدلالته على أسنى درجات استغلاله ، و أعلى أحوال الانتفاع به .
و الناس مختلفون في الإجازة فمنهم من يستغلها في : علم ، دعوة ، عملٍ ، سفرٍ .
فيُعطى كلٌ بحسب ما يناسبه .
الثاني : أزمنة عامة .
و هي الأزمنة التي تُشغلُ أقواماً و فئاتٍ من الناس .
و ( المُبارَكةُ ) فيها بإشغال الناس بما يتوافق مع حقيقة وضع ذاك الزمن .
ففي مناسبات ( الجهاد ) يكون حديث ( المُبارَك ) عن : أحكام الجهاد ، و أسراره ، موارد النصر ، و ... و ... .
و ليس من ( المبارَكة ) أن يُغْفَلَ حديث الساعة و يُشْغَلُ الناس بحديث مُجانِبٍ لما هم فيه .
و السرُّ الجامع لـ ( البركة ) أن يكون ( المُبارَكُ ) عارفاً بوظيفة الوقت ، و هي : ( العمل على مرضاة الربِّ في كل وقت بما هو مُقتضى ذلك الوقت و وظيفته ) . أهـ [ المدارج 1/109 ]
و هو ما سبق أن بينته في ثنايا الكلام .
و أسَفٌ أن تَلْقَ ( المُبارَك ) نادراً في زمانه ، و حيداً في مكانه ، مُهْمَلاً من أخدانه ...
و إن كان موجوداً فإنه على قلَّة ، و التأريخُ مليء بأخبار ( المبارَِكين ) منهم على سبيل التمثال لا الحصر :
1- الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله _ ، فإن الناظر في سيرته يرى أنه ما كان في أرض و لا في زمان إلا و هو ناشراً خيراً ، و مُظْهِراً طاعة .
و لكَ أن تنظر شأنه في المحنة فإنه لما عَلِمَ أن ذاك زمانٌ لابدَّ فيه من إظهار الحق ، و الجلَدِ في تبيانه كان منه ما كان .
2- شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني _ رحمه الله _ و شأنه معروف مشهور .
و حاله في موقفه مع أهل البدع ، و حاله في ساحات العراك مع التتر ، و تربيته لطلابه ، و نفيه من بلاده ... .
تراه في كل ذلك يعيش عملاً يتناسب مع حاله و زمنه .
3- الشيخ عبد العزيز ابن بازٍ _ رحمه الله _ و هذا مدرسة ( مبارَِكة ) متكاملة .
و من عرفه عرف أبعادَ ما أقولُ .
و ختماً أبوح بنداءٍ لعلَّ هناك من يسمع دويَّه فأقول :
ألا لا يلعبنَّ بنا الهم ، و لا يعبثنَّ بنا الشيطان صرْفاً عن إدراك مكنونات ( البركة ) ، و ظَفَرَاً بنا في ساحات ( المحق ) و الصدِّ عن العمل للدين .
و لِيَعْلَمَ كلٌّ أن ( البركة ) سائرةٌ ، و أن ( المُبارَِك ) لا تخلو منه أمكنة و لا أزمنة ، و أن كلاًّ فيه من ( البركة ) ما كتب الله له ، و لكن الموفَّق أظهره الله ، و الآخر إما أنه أهملها _ الرجل نفسه _ أو أن الله حرمه ( البركة ) .
و الاستسلام لأوهام ( المحق ) حاجبٌ لأنوار ( البركة ) .
جعلني الله و إياكم مبارَِكين أينما كنا ، و أن يجعلنا ممن إذا أعطيَ شكر ، و إذا ابتليَ صبر ، و إذا أذنب استغفر .
6/4/1423هـ
http://www.saaid.net/Doat/thomaaly/18.htm