باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم
قال الله تعالى { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب }
348 - وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه رواه مسلم وفي رواية له: فأقدمهم سلما بدل سنا أي إسلاما وفي رواية يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة فإن كانت قراءتهم سواء فيؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا والمراد بسلطانه محل ولايته أو الموضع الذي يختص به وتكرمته بفتح التاء وكسر الراء وهي ما ينفرد به من فراش وسرير ونحوهما
349 - وعنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم ليلني هو بتخفيف النون وليس قبلها ياء وروى بتشديد النون مع ياء قبلها والنهى العقول وأولوا الأحلام هم البالغون وقيل أهل الحلم والفضل
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب توقير العلماء وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم يعني وما يتعلق بهذا من المعاني الجليلة المؤلف رحمه الله يريد بالعلماء علماء الشريعة الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العلماء ورثة الأنبياء لأن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عن بنته فاطمة وعمه العباس ولم يرثوا شيئا لأن الأنبياء لا يورثون إنما ورثوا العلم فالعلم شريعة الله فمن أخذ العلم أخذ بحظ وافر من ميراث العلماء وإذا كان الأنبياء لهم حق التبجيل والتعظيم والتكريم فلمن ورثهم نصيب من ذلك أن يبجل ويعظم ويكرم فلهذا عقد المؤلف رحمه الله لهذه المسألة العظيمة بابا لأنها مسألة عظيمة ومهمة وبتوقير العلماء توقر الشريعة لأنهم حاملوها وبإهانة العلماء تهان الشريعة لأن العلماء إذا ذلوا وسقطوا أمام أعين الناس ذلت الشريعة التي يحملونها ولم يبق لها قيمة عند الناس وصار كل إنسان يحتقرهم ويزدريهم فتضيع الشريعة كما أن ولاة الأمر من الأمراء والسلاطين يجب احترامهم وتوقيرهم وتعظيمهم وطاعتهم حسب ما جاءت به الشريعة لأنهم إذا احتقروا أمام الناس وأذلوا وهون أمرهم ضاع الأمن وصارت البلاد فوضى ولم يكن للسلطان قوة ولا نفوذ فهذان الصنفان من الناس العلماء والأمراء إذا احتقروا أمام الناس فسدت الشريعة وفسد الأمن وضاعت الأمور وصار كل إنسان يرى أنه هو العالم وكل إنسان يرى أنه الأمير فضاعت الشريعة وضاعت البلاد ولهذا أمر الله تعالى بطاعة ولاة الأمور من العلماء والأمراء فقال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ونضرب لكم مثلا إذا لم يعظم العلماء والأمراء فإن الناس إذا سمعوا من العالم شيئا قالوا هذا هين قال فلان خلاف ذلك أو قالوا هذا هين هو يعرف ونحن نعرف كما سمعنا عن بعض السفهاء الجهال أنهم جودلوا في مسألة من مسائل العلم وقيل لهم هذا قول الإمام أحمد بن حنبل أو هذا قول الشافعي أو قول مالك أو قول أبي حنيفة أو قول سفيان أو ما أشبه ذلك قال نعم هم رجال ونحن رجال لكن فرق بين رجولة هؤلاء ورجولة هؤلاء من أنت حتى تصادم بقولك وسوء فهمك وقصور علمك وتقصيرك في الاجتهاد وحتى تجعل نفسك ندا لهؤلاء الأئمة رحمهم الله فإذا استهان الناس بالعلماء لقال كل واحد أنا العالم أنا النحرير أنا الفهامة أنا العلامة أنا البحر الذي لا ساحل له ولما بقي عالم ولصار كل يتكلم بما شاء ويفتي بماء شاء ولتمزقت الشريعة بسبب هذا الذي يحصل من بعض السفهاء وكذلك الأمراء إذا قيل لواحد مثلا أمر الولي بكذا وكذا قال لا طاعة له لأنه مخل بكذا ومخل بكذا وأقول إنه إذا أخل بكذا وكذا فذنبه عليه وأنت مأمور بالسمع والطاعة حتى وإن شربوا الخمور وحتى إن عانقوا الزمور وغير ذلك ما لم نر كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان وإلا فطاعتهم واجبة ولو فسقوا ولو عتوا ولو ظلموا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك وقال لأصحابه فيما إذا أخل الأمراء بواجبهم قال اسمعوا وأطيعوا فإنما عليكم ما حملتم وعليهم ما حملوا أما من يريد أن تكون أمراؤنا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فهذا لا يمكن لنكن نحن مثل الرعية في ذلك الوقت ولنكن نحن صحابة أو مثل الصحابة حتى يكون ولاة الأمور مثل خلفاء الصحابة أما والشعب كما نعلم الآن أكثرهم مفرط في الواجبات وكثير منتهك للحرمات ثم يريدون أن يولي الله عليهم خلفاء راشدين فهذا بعيد لكن نحن علينا أن نسمع ونطيع وإن كانوا هم أنفسهم مقصرين فتقصيرهم هذا عليهم عليهم ما حملوا وعلينا ما حملنا فإذا لم يوقر العلماء ولم يوقر الأمراء ضاع الدين والدنيا نسأل الله العافية ثم استدل المؤلف بقوله تعالى { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } { قل هل يستوي } يعني لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لأن الجاهل متصف بصفة ذم والعالم متصف بصفة مدح ولهذا لو تعير أدنى واحد من العامة وتقول له أنت جاهل غضب وأنكر ذلك مما يدل على أن الجهل عيب مذموم كل ينفر منه والعلم خير ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون في أي حال من الأحوال العالم يعبد الله على بصيرة يعرف كيف يتوضأ وكيف يصلي وكيف يزكي وكيف يصوم وكيف يحج وكيف يبر والديه وكيف يصل رحمه العالم يهدي الناس { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } لا يمكن أن يكون هذا مثل هذا فالعالم نور يهتدي به ويرفع الله به والجاهل عالة على غيره لا ينفع نفسه ولا غيره بل إن أفتى بجهل ضر نفسه وضر غيره فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ثم استدل المؤلف بحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله يعني يكون إماما فيهم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما أي إسلاما وفي لفظ سنا أي أكبرهم سنا وهذا يدل على أن صاحب العلم مقدم على غيره يقدم العالم بكتاب الله ثم العالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقدم من القوم في الأمور الدينية إلا خيرهم وأفضلهم وهذا يدل على تقديم الأفضل فالأفضل في الإمامة وهذا في غير الإمام الراتب أما الإمام الراتب فهو الإمام وإن كان في الناس من هو أقرأ منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه وإمام المسجد الراتب سلطان في مسجده حتى إن بعض العلماء يقول لو أن أحدا تقدم وصلى بجماعة المسجد بدون إذن الإمام فصلاتهم باطلة وعليهم أن يعيدوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الإمامة والنهي يقتضي الفساد
350 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثلاثا وإياكم وهيشات الأسواق رواه مسلم
351 - وعن أبي يحيى وقيل أبي محمد سهل بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة وإسكان الثاء المثلثة الأنصاري رضي الله عنه قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة ابن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال أتحلفون وتستحقون قاتلكم وذكر تمام الحديث متفق عليه وقوله صلى الله عليه وسلم كبر كبر معناه يتكلم الأكبر
352 - وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد يعني في القبر ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد رواه البخاري
353 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أراني في المنام أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر فناولت السواك الأصغر فقيل لي كبر فدفعته إلى الأكبر منهما رواه مسلم مسندا والبخاري تعليقا
354 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط حديث حسن رواه أبو داود
الشَّرْحُ
هذه الأحاديث فيها الإشارة إلى ما سبق عن المؤلف رحمه الله بإكرام أهل العلم وأهل الفضل الكبير فمن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم قال ذلك ثلاثا وإياكم وهيشات الأسواق وفي قوله ليلني منكم اللام لام الأمر والمعنى أنه في الصلاة ينبغي أن يتقدم أولوا الأحلام والنهى وأولوا الأحلام يعني الذين بلغوا الحلم وهم البالغون والنهى جمع نهية وهي العقل يعني العقلاء فالذي يجب أن يتقدم في الصلاة العاقلون البالغون لأن ذلك أقرب إلى فهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يفعله من الصغار ونحوهم فلهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقدم هؤلاء حتى يلوا الإمام وليس معنى الحديث لا يلني إلا أولوا الأحلام والنهى بحيث نطرد الصبيان عن الصف الأول فإن هذا لا يجوز فلا يجوز طرد الصبيان عن الصف الأول إلا أن يحدث منهم أذية فإن لم يحدث منهم أذية فإن من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد أحق به وهناك فرق بين أن تكون العبارة النبوية لا يلني إلا أولوا الأحلام وبين قوله ليلني أولوا الأحلام فالثانية تحت الكبار العقلاء على التقدم والأولى لو قدر أنها نص الحديث لكان ينهى أن يلي الإمام من ليس بالغا أو ليس عاقلا ولهذا نقول إن أولئك الذين يطردون الصبيان عن الصف الأول أخطأوا من جهة أنهم منعوا ذوي الحقوق حقوقهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ومن جهة أخرى أنهم يكرهون الصبيان المساجد وهذا يؤدي إلى أن ينفر الصبي عن المسجد إذا كان يطرد عنه ومنها أن هذه لا تزال في نفسه عقدة من الذي طرده فتجده يكرهه ويكره ذكره فمن أجل هذه المفاسد نقول لا تطردوا الصبيان من أوائل الصفوف ثم إننا لو طردناهم من أوائل الصفوف حصل منهم لعب لو كانوا كلهم في صف واحد كما يقوله من يقوله من أهل العلم لحصل منهم من اللعب ما يوجب اضطراب المسجد واضطراب أهل المسجد ولكن إذا كانوا مع الناس في الصف الأول ومتفرقين فإن ذلك أسلم من الفوضى التي تحصل بكونهم يجتمعون في صف واحد وقوله صلى الله عليه وسلم ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى يستفاد منه أن الدنو من الإمام له شأن مطلوب ولهذا قال ليلني أي يكون هو الذي يليني وعلى هذا نقول إذا كان يمين الصف بعيدا وأيسر الصف أقرب منه بشكل واضح فإن الصف الأيسر أفضل من الأيمن من أجل دنوه من الإمام ولأنه لما كان الناس في أول & الأمر إذا كان إمامهم واثنان معه فإنهما يكونان عن يمينه واحد وعن شماله واحد ولا يكون كلاهما عن اليمين فدل هذا على مراعاة الدنو من الإمام وتوسط الإمام من المأمومين ولكن هذا الأمر أي كون الإمام واثنان معه يكونان في صف واحد هذا نسخ وصار الإمام إذا كان معه اثنان يصفان خلفه ولكن كونه حين كان مشروعا يجعل أحدهما عن اليمين والثاني عن اليسار يدل على أنه ليس الأيمن أفضل مطلقا بل أفضل من الأيسر إذا كان مقاربا أو مثله أما إذا تميز بميزة بينة فاليسار مع الدنو من الإمام أفضل وفي حديث الرؤيا التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم يتسوك بسواك فجاءه رجلان فأراد أن يعطيه الأصغر فقيل له كبر كبر فيه دليل أيضا على اعتبار الكبر وأنه يقدم الأكبر في إعطاء الشيء ومن ذلك إذا قدمت الطعام مثلا أو القهوة أو الشاي فلا تبدأ باليمين بل ابدأ بالأكبر الذي أمامك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعطيه الأصغر قيل له كبر ومعلوم أنه لو كان الأصغر هو الأيسر ما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيه إياه فالظاهر أنه أعطي الأيمن من أجل التيامن لكن قيل له كبر يعني أعطه الأكبر فهذا إذا كان الناس أمامك تبدأ بالكبير لا تبدأ اليمين أما إذا كانوا جالسين عن اليمين وعن الشمال فابدأ باليمين وبهذا يجمع بين الأدلة الدالة على اعتبار التكبير أي مراعاة الكبير وعلى اعتبار الأيمن أي مراعاة الأيمن فنقول إذا كانت القصة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان معه إناء يشرب منه وعلى يساره الأشياخ وعلى يمينه غلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال الغلام لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان هكذا فأعطه من على يمينك أما الذين أمامك فابدأ بالكبير كما تدل عليه السنة وهذا هو وجه الجمع بينهما ثم إن الإنسان إذا أعطى الشراب الكبير فمن يعطي بعده هل يعطي الذي على يمين الكبير ويكون عن يسار الصاب أم الذي عن يمين الصاب نقول يبدأ بالذي عن يمين الصاب وإن كان على يسار الكبير لأننا إذا اعتبرنا التيامن بعد مراعاة الكبر فالذي عن يمينك هو الذي عن يسار مقابلك فتبدأ به ما لم يسمح بعضهم لبعض ويقول أعطه فلانا ..
.
أعطه فلانا فالحق لهم ولهم أن يسقطوه
باب زيارة أهل الخير