574 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه البخاري ذكر المؤلف - رحمه الله - في باب ذكر الموت وقصر الأمل قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ يعني ألم يأت الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله عز وجل ؟ والخشوع معناه الخضوع والذل { لذكر الله } يعني عند ذكره، فإن المؤمنين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وقوله: { لذكر الله } أي لتذكر الله وعظمته { وما نزل من الحق } أي ويخشعون لما نزل من الحق، وهو ما كان في كتاب الله سبحانه وتعالى فإن هذا الكتاب جاء بالحق والنبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه الكتاب جاء بالحق، فيحق للمؤمن أن يخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحق . قال: { وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } يعني ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل وهم اليهود والنصارى فاليهود أوتوا التوراة والنصارى أوتوا الإنجيل ومع ذلك فإن اليهود كفروا بالإنجيل والنصارى كفروا بالقرآن فصار الكل كفاراً، ولذلك كان اليهود قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مغضوبا عليهم لأنهم علموا الحق وهو ما جاء به عيسى ولكنهم استكبروا عنه وأعرضوا عنه أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان اليهود والنصارى كلهم مغضوبا عليهم وذلك لأن النصارى علموا الحق فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك استكبروا عنه، فكانوا كلهم مغضوبا عليهم لأن القاعدة في المغضوب عليهم أنهم الذين علموا الحق ولم يعملوا به كاليهود والنصارى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام . هؤلاء الذين أوتوا الكتاب طال عليهم الأمد أي الوقت: { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد عيسى بستمائة سنة، وهي فترة طويلة انحرف فيها من انحرف من أهل الكتاب، ولهذا قال: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ولم يقل أكثرهم فاسقون ولم يقل كلهم فاسقون فكثير منهم فاسقون خارجون عن الحق . فحذر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وإذا نظرت إلى الأمة الإسلامية، وجدت أنها ارتكبت ما ارتكبه الذين أوتوا الكتاب من قبل، فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمد من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قست قلوب كثير منهم وفسق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلا للولاية لفسقه بل ومروقه عن الإسلام فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون أن الحكم بالقوانين أفضل من حكم الله ورسوله كفار بلا شك ومرتدون عن الإسلام . ولكن الله سبحانه وتعالى يبلو الناس بعضهم ببعض، وإذا صبر المؤمن واحتسب وانتظر الفرج من الله عز وجل، وعمل الأسباب التي توصل إلى المقصود يسر الله له الأمر . فالمهم أن الله نهانا أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فقست قلوبهم، ولكن صار الكثير منا في الوقت الحاضر متشبها بهؤلاء الناس قست قلوبهم، وكثير من هؤلاء أيضا فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعة الله . ثم قال المؤلف والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة . وأما الأحاديث فمنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي . يعني أمسك به، والمنكب هو أعلى الكتف، أخذ به من أجل أن ينتبه ابن عمر لما سيلقي إليه الرسول عليه الصلاة والسلام من القول . وهذا من حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا تكلم اتخذ الأسباب التي توجب انتباه المخاطب، إما بالفعل كما هنا، وإما بالقول كما في قوله: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا: بلى يا رسول الله . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل سبحان الله أعطى الله نبيه جوامع الكلم، هاتان الكلمتان يمكن أن تكونا نبراسا يسير الإنسان عليه في حياته كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل والفرق بينهما أن عابر السبيل ماش يمر بالقرية وهو ماش منها . وأما الغريب فهو مقيم فيها حتى يرتحل عنها، يقيم فيها يومين أو ثلاثة أو عشرة أو شهرا، وكل منهما لم يتخذ القرية التي هو فيها وطنا وسكنا وقرارا . فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام كن في الدنيا كهذا الرجل، إما غريب أو عابر سبيل . فالغريب وعابر السبيل لا يستوطن يريد أن يذهب إلى أهله وإلى بلده، لو أن الإنسان عامل نفسه في هذه الدنيا بهذه المعاملة لكان دائما مشمرا للآخرة، لا يريد إلا الآخرة ولا يكون أمام عينيه إلا الآخرة حتى يسير إليها سيرا يصل به إلى مطلوبه . وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح المعنى لا تؤمل أنك إذا أصبحت أمسيت وإذا أمسيت أصبحت فكم من إنسان لبس ثوبه ولم يخلعه إلا الغاسل ! وكم من إنسان خرج من أهله قد هيأوا له غداءه أو عشاءه ولم يأكله وكم من إنسان نام ولم يقم من فراشه ! المهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يطيل الأمل بل يكون حذرا حاذقا حازما كيسا، هذا معنى قوله: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح . وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك الإنسان الصحيح منشرح الصدر، منبسط النفس، واسع الفكر، عنده سعة في الوقت والصحة، لكن ما أكثر الذين يضيعون هذا، لأنه يؤمل أن هذه الصحة سوف تبقى وتدوم، وأنه سوف تطول به الدنيا، فتجده قد ضيع هذه الصحة . فابن عمر رضي الله عنهما يقول: خذ من صحتك لمرضك المرض تضيق به النفس، ويتعب به الجسم، وتضيق عليه الدنيا ولا يستطيع أن يعمل العمل الذي يعمله في حال الصحة، فليأخذ من صحته لمرضه، ومن حياته لموته، قس ما بين حياتك وموتك أيهما أطول ؟ لا شك أن الحياة لا تنسب للموت، كم للرسول عليه الصلاة والسلام ميتا . كم لمن قبله ؟ وحياتهم قليلة بالنسبة لموتهم، فكيف إلى الآخرة . ولهذا ينبغي للإنسان أن يأخذ من حياته0 ما دام الله قد أحياه - لموته إذا عجز عن العمل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له فخذ من حياتك لموتك .
الشَّرْحُ
575 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه . يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده متفق عليه هذا لفظ البخاري . وفي رواية لمسلم: يبيت ثلاث ليال قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي . ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده يعني ما حقه أن يبيت ليلتين إلا وقد كتب وصيته التي يريد أن يوصي بها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما منذ سمع هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبيت ليلة إلا وقد كتب وصيته . والوصية: معناها العهد، وهي أن يعهد الإنسان بعد موته لشخص في تصريف شيء من ماله، أو يعهد لشخص بالنظر على أولاده الصغار أو يعهد لشخص في أي شيء من الأعمال التي يملكها بعد موته فيوصي به، هذه هي الوصية . مثل أن يكتب الرجل: وصيتي إلى فلان بن فلان بالنظر على أولادي الصغار . وصيتي إلى فلان بن فلان بتفريق ثلث مالي أو ربعه أو خمسه في سبيل الله، وصيتي إلى فلان في أن ينتفع بما خلفت من عقار أو غيره أو ما أشبه ذلك . المهم أن الوصية هي العهد عهد الإنسان بعد موته إلى شخص بشيء يملكه . والوصية أنواع: واجبة ومحرمة وجائزة . أولا الوصية الواجبة: وهي أن يوصي الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة، لئلا يجحدها الورثة، لا سيما إذا لم يكن عليها بينة . مثل أن يكون على الإنسان دين أو حق لغيره فيجب أن يوصي به لا سيما إذا لم يكن فيه بينة لأنه إذا لم يوص به فإن الورثة قد ينكرونه والورثة لا يلزمون أن يصدقوا كل من جاء من الناس وقال إن لي على ميتكم كذا وكذا، لا يلزمهم أن يصدقوا، فإذا لم يوص الميت فإنه ربما يكون ضائعا فمن عليه دين يعني حق في ذمته لأحد فإنه يجب عليه أن يوصي به . كذلك أيضا يجب أن يوصي لأقاربه غير الوارثين بما تيسر لقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا يعني مالا كثيرا { الوصية } هذه نائب فاعل { لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } فخرج من الوالدين والأقربين من كانوا ورثة، فإن الورثة لا يوصي لهم، وبقيت الآية محكمة فيما عدا الوارثين . هكذا دلالة الآية وبها فسرها ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب إلى ذلك كثير من أهل العلم، أن الإنسان يجب أن يوصي إذا كان عنده مال كثير بما تيسر لأقاربه غير الوارثين، أما الوارث فلا يجوز أن يوصى له، لأن حقه من الإرث يكفيه، فهذان أمران تجب فيهما الوصية: الأول: إذا كان عليه دين يعني حقا . والثاني: إذا ترك مالا كثيرا فإنه يلزمه أن يوصي لأقاربه من غير الوارثين . ثانيا: الوصية المحرمة: وهي محرمة إذا أوصى لأحد من الورثة، مثل أن يوصي لولده الكبير بشيء من بين سائر الورثة، أو يوصي لزوجته بشيء من بين سائر الورثة، فإن هذا حرام عليه، حتى لو قدر أن الزوجة كانت تخدمه في حياته وتطيعه وتحترمه، وأراد أن يكافئها فإنه لا يحل له أن يوصي لها بشيء، وكذلك إذا كان أحد أولاده يبر به ويخدمه ويسعى في ماله فأراد أن يوصي له بشيء فإن ذلك حرام عليه . وكذلك ما يفعله بعض الناس إذا كان له أولاد عدة وزوج الكبير أوصى للصغار بمثل المال الذي زوج به الكبير، فإن هذا حرام أيضا لأن التزويج دفع حاجة كالأكل والشرب فمن احتاج إليه من الأولاد وعند أبيهم قدرة وجب عليه أن يزوجه، ومن لم يحتج إليه فإنه لا يحل له أن يعطيه شيئا مثل ما أعطى أخاه الذي احتاج للزواج . وهذه مسألة تخفى على كثير من الناس حتى على طلبة العلم، يظنون أنك إذا زوجت ولدك فإنك يجب أن توصي للأولاد الصغار بمثل ما زوجته به، وهذا ليس بصحيح فالوصية للوارث لا تجوز مطلقا . فإن قدر أن أحدا جاهلا وأوصى لأحد الورثة بشيء فإنه يرجع إلى الورثة بعد موته، إن شاءوا نفذوا الوصية وإن شاءوا ردوها . ثالثا: الوصية المباحة فهي أن يوصي الإنسان بشيء من ماله لا يتجاوز الثلث، لأن تجاوز الثلث ممنوع لكن ما دون الثلث أنت حر فيه ولك إن توصي فيه لمن شئت إلا الورثة ولكن هل الأفضل الثلث أو الربع أو ما دون ذلك ؟ نقول أكثر شيء الثلث لا تزد عليه وما دون الثلث فهو أفضل منه ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: الثلث والثلث كثير وكان أبو بكر رضي الله عنه أوصى بخمس ماله . وقال: أرضى بما رضي الله لنفسه فأوصى بخمس ماله وهذا أحسن ما يكون . وليت أن طلبة العلم والذين يكتبون الوصايا ينبهون الموصين على أن الأفضل الوصية بالخمس لا بالثلث وقد شاع عند الناس الثلث دائما وهذا الحد الأعلى الذي حده الرسول عليه الصلاة والسلام وما دونه أفضل منه، فالربع أفضل من الثلث والخمس أفضل من الربع . وإذا كان الورثة محتاجين فترك الوصية أولى لأنهم أحق من غيرهم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس فإذا كان الورثة الذين يرثونك تعرف أن حالهم وسط المال شحيح عندهم وأنهم إلى الفقر أقرب فالأفضل ألا توصي . ففي هذا الحديث الإشارة إلى أن الإنسان يوصي ولكن الوصية تنقسم إلى أقسام كما أشرنا منها واجبة ومنها محرمة ومنها مباحة . فالواجبة: أن يوصي الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة لئلا يجحدها الورثة، فيضيع حق من هي له . لاسيما إذا لم يكن عليها بينة، وكذلك وصية من ترك مالا كثيرا لأقاربه الذين لا يرثون بدون تقدير، على ألا تزيد على الثلث . والمحرمة: نوعان أيضا أن تكون لأحد من الورثة، وأن تكون زائدة على الثلث . والمباحة: ما سوى ذلك ولكن الأفضل أن تكون الخمس فأقل وإن زاد إلى الربع فلا بأس وإلى الثلث فلا بأس ولا يزيد على الثلث . وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما العمل بالكتابة، لقوله صلى الله عليه وسلم: إلا ووصيته مكتوبة عنده فدل هذا على وجوب العمل بالكتابة . وفي قوله: مكتوبة اسم مفعول إشارة إلى أن لا فرق بين أن يكون هو كاتبها أو غيره ممن تثبت بكتابتهم فلابد أن تكون الكتابة معلومة إما بخط الموصي نفسه، أو بخط شخص معتمد، وأما إذا كانت بخط مجهول فلا عبرة بها ولا عمل عليها . وفي قوله: عنده إشارة إلى أنه ينبغي أن يحتفظ الإنسان بالوثائق وألا يسلط عليها أحدا، بل تكون عنده في شيء محفوظ محرز كالصندوق وغيره لأنه إذا أهملها فربما تضيع منه، أو يسلط عليها أحدا يأخذها ويتلفها أو ما أشبه ذلك . المهم في هذا: الاعتناء بالوصية، وأن يحتفظ بها الإنسان حتى لا تضيع . وفيه أيضا سرعة امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما بعد ما سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم: ما مرت علي ليلة منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا إلا ووصيتي مكتوبة عندي فالذي ينبغي للإنسان أن يهتم بهذا الأمر حتى لا يفجأه الموت وهو قد أضاع نفسه، وأضاع حق غيره .
الشَّرْحُ
578 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر ؟ رواه الترمذي وقال: حديث حسن . هذا الحديث ذكره المؤلف - رحمه الله - في باب ذكر الموت وقصر الأمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعا يعني اعملوا قبل أن يصيبكم هذه السبع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فبادروا بها . ثم ذكر هذه السبع وأنها: إما فقرا منسيا بأن يصاب الإنسان بفقر ينسيه ذكر ربه، لأن الفقر - أعاذنا الله - وإياكم منه - شر درع يلبسه العبد، فإنه إذا كان فقيرا يحتاج إلى أكل وشرب ولباس وسكن وزوجة فلا يجد من ذلك شيئا فتضيق عليه الأرض بما رحبت، ويذهب يتطلب ليحصل على شيء من ذلك فينسى ذكر الله عز وجل، ولا يتمكن من أداء العبادة على وجهها . وكذلك يفوته كثير من العبادات التي تستوجب أو التي تستلزم الغنى كالزكاة والصدقات والعتق والحج والإنفاق في سبيل الله، وما أشبه ذلك . أو غنى مطغيا بأن يغني الله الإنسان ويفتح عليه من الدنيا فيطغى بذلك، ويرى أنه استغنى عن ربه عز وجل، فلا يقوم بما أوجب الله عليه، ولا ينتهي عما نهاه الله عنه . قال الله تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى كذلك أو مرضا مفسدا مرض يفسد على الإنسان حياته لأن الإنسان ما دام في صحة فهو في نشاط وانشراح صدر، والدنيا أمامه مفتوحة، فإذا مرض ضعف البدن، وضعفت النفس وضاقت، وصار الإنسان دائما في هم وغم فتفسد عليه حياته . كذلك أيضا الهرم المفند: أو هرما مفندا يعني كبرا يفند قوته ويحطمها، كما قال تعالى: { اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } فالإنسان ما دام نشيطا شابا يعمل العبادة بنشاط يتوضأ بنشاط يصلي بنشاط يذهب إلى العمل بنشاط، لكن إذا كبر فهو كما قال الله عز وجل عن زكريا: { رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أي ضعف العظم، والعظم هو الهيكل الذي ينبني عليه الجسم، فيضعف وتضعف القوة ولا يستطيع أن يفعل ما كان يفعله في حال الشباب كما قال الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب أو موتا مجهزا هذا أيضا ما ينتظر وإذا مات الإنسان انقطع عمله ولم يتمكن من العمل . مجهزا سريعا وكم من إنسان مات من حيث لا يظن أنه يموت كم من إنسان مات وهو في شبابه وصحته في حوادث احتراق، أو انقلاب سيارة، أو سقوط جدار عليه، أو سكتة قلبية، أشياء كثيرة يموت الإنسان بسببها ولو كان شابا . فبادر هذا لأنك لا تدري ربما تموت وأنت تخاطب أهلك أو تموت وأنت على فراشك أو تموت وأنت على غدائك، أو تموت وأنت في سيارتك، أو في سفرك إذا بادر . ومن ذلك أيضا قوله: أو الدجال، فشر غائب ينتظر يعني أو تنتظرون الدجال، وهو الرجل الخبيث الكذاب المموه الذي يبعث في آخر الزمان يدعو الناس إلى عبادته ويوهمهم، فيفتتن به الخلق إلا من شاء الله . وهذا أمرنا أن نستعيذ بالله منه في كل صلاة قال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليقل: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال . والمسيح الدجال رجل من بني آدم . لكنه أعور خبيث كافر متمرد، وقد كتب بين عينيه كافر، ولا يقرؤه المؤمن ولو كان غير قارئ يقرؤه الكافر ولو كان قارئا . وهذه آية من آيات الله عز وجل . وهذا الدجال يدعو الناس إلى عبادته فيقول: أنا ربكم فإن أطاعوه أدخلهم جنته وإن عصوه أدخلهم ناره، لكن ما هي جنته وناره ؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه يجيء معه بمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار لكنه يوهم الناس ويموه عليهم فيحسبون أن هذا الذي أطاعه أدخله الجنة، وأن هذا الذي عصاه أدخله النار والحقيقة بخلاف ذلك . كذلك يأتي إلى القوم في البادية، يأتي إليهم ممحلين ليس في ضروع مواشيهم لبن ولا في أرضهم نبات فيدعوهم فيقول أنا ربكم فيستجيبون له فيأمر السماء فتمطر يقول للسماء: أمطري فتمطر ويأمر الأرض فتنبت يقول يا أرض أنبتي فتنبت فيصبحون على أخصب ما يكون ترجع إليهم مواشيهم أسبغ ما يكون ضروعا ضروعها مملوءة وأطول ما يكون ذري أسنمتها رفيعة من الشبع والسمن، فيبقون على عبادته فيسعدون في الدنيا مدة يسيرة ولكنهم في الحقيقة خسروا الدنيا والآخرة لأنهم اتخذوا الدجال ربا من دون الله فالدجال يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شر غائب ينتظر أعاذنا الله وإياكم من فتنته ثم قال: أو الساعة يعني أو تنتظرون الساعة، أي قيام الساعة: فالساعة أدهى وأمر يعني أشد داهية وأمر مذاقا قال الله تبارك وتعالى: { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } والحاصل إن الإنسان لن يخرج عن هذه السبع، وهذه السبع كلها تعيقه عن العمل، فعليه أن يبادر، ما دام في صحة، ونشاط، وشباب، وفراغ، وأمن، قبل أن يفوته ذلك كله فيندم حيث لا ينفع الندم .
الشَّرْحُ