باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى 6 وما يقوله من دعى إلى ذلك وأمر بمعروف أو نهى عن منكر
قال الله تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وقال تعالى { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وفيه من الأحاديث حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب قبله وغيره من الأحاديث فيه
168 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والجهاد والصيام والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فلما اقترأها القوم وذلقت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال نعم { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال نعم { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال نعم رواه مسلم
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى ثم ذكر آيتين سبق الكلام عليهما منهما قوله تعالى فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم لما أنزل الله على نبيه هذه الآية { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } كبر ذلك عليهم وشق عليهم ذلك لأن ما في النفس من الحديث أمر لا ساحل له فالشيطان يأتي الإنسان ويحدثه في نفسه بأشياء منكرة عظيمة منها ما يتعلق بالأمور الدينية ومنها ما يتعلق بالأمور الدنيوية ومنها ما يتعلق بالنفس ومنها ما يتعلق بالمال أشياء كثيرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان والله عز وجل يقول { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } فإذا كان كذلك هلك الناس فجاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على ركبهم فعلوا ذلك من شدة الأمر والإنسان إذا نزل به أمر شديد يجثو على ركبتيه وقالوا يا رسول الله إن الله تعالى أمرنا بما نطيق الصلاة والجهاد والصيام والصدقة هذه نطيقها نصلي نجاهد نتصدق نصوم لكنه أنزل هذه الآية { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } وهذه شديدة عليهم لا أحد يطيق أن يمنع الإنسان نفسه عما تحدثه به من الأمور التي لو حوسب عليها لهلك فقال النبي عليه الصلاة والسلام أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا أهل الكتابين هم اليهود والنصارى اليهود كتابهم التوراة وهي أشرف الكتب المنزلة بعد القرآن والنصارى كتابهم الإنجيل وهو متمم التوراة واليهود والنصارى عصوا أنبياءهم وقالوا سمعنا وعصينا فهل تريدون أن تكونوا مثلهم ولكن قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير وهكذا يجب على المسلم إذا سمع أمر الله ورسوله أن يقول سمعنا وأطعنا ويمتثل بقدر ما يستطيع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها كثير من الناس اليوم يأتي إليك يقول إن الرسول أمر بكذا هل هو واجب أو سنة ؟ والواجب أنه إذا أمرك أن تفعل إن كان واجبا فقد أبرأت الذمة وحصلت خيرا وإن كان مستحبا فقد حصلت خيرا أيضا أما أن تقول هو واجب أو مستحب وتتوقف عن العمل حتى تعرف فهذا لا يكون إلا من إنسان كسول لا يحب الخير ولا الزيادة فيه أما الإنسان الذي يحب الزيادة في الخير فهو إذا علم أمر الله ورسوله قال: سمعنا وأطعنا ثم فعل ولا يسأل هو واجب أو مستحب إلا إذا خالف حينئذ يسأل ولهذا لم نعهد ولم نعلم أن الصحابة كانوا إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر قالوا يا رسول الله أعلى سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب ما سمعنا بهذا كانوا يقولون سمعنا وأطعنا ويمشون فأنت افعل وليس عليك من كونه مستحبا أو واجبا ولا يستطيع الإنسان أن يقول إن هذا الأمر مستحب أو واجب إلا بدليل والحجة أن يقول لك المفتي هكذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام ونحن نجد ابن عمر رضي الله عنه لما حدث ابنه بلالا قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تمنعوا نساءكم المساجد وقد تغيرت الحال بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام قال بلال والله لنمنعهن فسبه عبد الله بن عمر سبا شديدا لماذا يقول والله لنمنعهن والرسول يقول: لا تمنعونهن ثم إنه هجره حتى مات وهذا يدل على شدة تعظيم الصحابة لأمر الله ورسوله أما نحن فنقول هل هذا الأمر واجب أم مستحب هذا النهي للتحريم أم للكراهة لكن إذا وقع الأمر فلك أن تسأل حينئذ هل أثمت بذلك أم لا لأجل أنه إذا قيل لك إنك آثم تجدد توبتك وإذا قيل إنك غير آثم يستريح قلبك أما حين يوجه الأمر فلا تسأل عن الاستحباب أو الوجوب كما كان أدب الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام يفعلون ما أمر ويتركون ما عنه نهى وأجر لكن مع ذلك نحن نبشركم بحديث قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم الحمد لله رفع الحرج كل ما حدثت به نفسك ولكن ما ركنت إليه ولا عملت ولا تكلمت فهو معفو عنه حتى ولو كان أكبر من الجبال فاللهم لك الحمد حتى إن الصحابة قالوا يا رسول الله نجد في نفوسنا ما نحب أن تكون حممة يعني فحمة محترقة ولا نتكلم به قال ذاك صريح الإيمان يعني ذاك هو الإيمان الخالص لأن الشيطان ما يلقى مثل هذه الوساوس في قلب خرب في قلب فيه شك إنما يتسلط الشيطان أعاذنا الله منه على قلب مؤمن خالص ليفسده ولما قيل لابن عباس أو ابن مسعود إن اليهود إذا دخلوا في الصلاة لا يوسوسون قال وما يصنع الشيطان بقلب خراب فاليهود كفار قلوبهم خربة فالشيطان لا يوسوس لهم عند صلاتهم لأنها باطلة من أساسها الشيطان يوسوس للمسلم الذي صلاته صحيحة مقبولة ليفسدها يأتي للمؤمن صريح الإيمان ليفسد هذا الإيمان الصريح ولكن والحمد لله من أعطاه الله تعالى طب القلوب والأبدان محمد صلى الله عليه وسلم وصف لنا لهذا طبا ودواء فأرشد إلى الاستعاذة بالله والانتهاء فإذا أحس الإنسان بشيء من هذه الوساوس الشيطانية فإنه يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينته يعرض عنها ولا يلتفت إليها امض فيما أنت عليه فإذا رأى الشيطان أنه لا سبيل إلى إفساد هذا القلب المؤمن الخالص نكص على عقبيه ورجع ثم إنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ولانت لها نفوسهم وذلت لها ألسنتهم أنزل الله بعدها { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } يعني والمؤمنون آمنوا { كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فبين الله عز وجل في هذه الآية الثناء عليهم وعلى رسوله وعلى المؤمنين لأنهم قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ثم أنزل الله { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فالذي ليس في وسع الإنسان لا يكلفه الله به ولا حرج عليه فيه مثل الوساوس التي تهجم على القلب ولكن الإنسان إذا لم يركن إليها ولم يصدق بها ولم يرفع بها رأسا فإنها لا تضره لأن هذه ليست داخلة في وسعه والله عز وجل يقول { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } فقد يحدث الشيطان الإنسان في نفسه عن أمور فظيعة عظيمة ولكن الإنسان إذا أعرض عنها واستعاذ بالله من الشيطان ومنها زالت عنه { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال نعم يعني قال الله نعم لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال نعم ولهذا قال الله تعالى في وصف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } { ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به } قال الله نعم ولهذا لا يكلف الله تعالى في شرعه ما لا يطيقه الإنسان بل إذا عجز عن الشيء انتقل إلى بدله إذا كان له بدل أو سقط عنه إن لم يكن له بدل أما أن يكلف ما لا طاقة له به فإن الله تعالى قال هنا نعم يعني لا أحملكم ما لا طاقة لكم به { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال الله نعم فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا هذه ثلاث كلمات كل كلمة لها معنى واعف عنا يعني تقصيرنا في الواجب واغفر لنا يعني انتهاكنا للمحرم وارحمنا يعني وفقنا للعمل الصالح فالإنسان إما يترك واجبا أو يفعل محرما فإن ترك الواجب فإنه يقول اعف عنا أي اعف عنا ما قصرنا فيه من الواجب وإن فعل المحرم فإنه يقول اغفر لنا يعني ما اقترفنا من الذنوب أو يطلب تثبيتا وتأييدا وتنشيطا على الخير في قوله { وارحمنا } فهذه ثلاث كلمات كل كلمة لها معنى { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا } أي متولي أمورنا في الدنيا والآخرة فتولنا في الدنيا وانصرنا على القوم الكافرين { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قد يتبادر للإنسان أن المراد أعداؤنا من الكفار ولكنه أعم حتى إنه يتناول الانتصار على الشيطان لأن الشيطان رأس الكافرين إذن نستفيد من هذه الآيات الكريمة الأخيرة: أن الله سبحانه وتعالى لا يحملنا مالا طاقة لنا به ولا يكلفنا إلا وسعنا وأن الوساوس التي تجول في صدورنا إذا لم نركن إليها ولم نطمئن إليها ولم نأخذ بها فإنها لا تضر
باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور