باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى
قال الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } وقال تعالى: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } . وقال تعالى: { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ } .
544 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها متفق عليه .
545 - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه . قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر رواه البخاري .
546 - وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة متفق عليه .
547 - وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا متفق عليه .
548 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا متفق عليه .
549 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى أنفق يا ابن آدم ينفق عليك متفق عليه . قال المؤلف - رحمه الله تعالى - باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى . المال الذي أعطاه الله بني آدم، أعطاهم إياه فتنة ليبلوهم هل يحسنون التصرف فيه أم لا . قال الله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فمن الناس من ينفقه في شهواته المحرمة وفي لذائذه التي لا تزيده من الله إلا بعدا فهذا يكون ماله وبالا عليه والعياذ بالله . ومن الناس من ينفقه ابتغاء وجه الله فيما يقربه إلى الله على حسب شريعة الله، فهذا ماله خير له . ومن الناس من يبذل ماله في غير فائدة ليس في شيء محرم ولا في شيء مشروع فهذا ماله ضائع عليه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . وينبغي للإنسان إذا بذل ماله فيما يرضي الله أن يكون واثقا بوعد الله سبحانه وتعالى حيث قال في كتابه: { وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }، { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي يعطيكم خلفا عنه . وليس معناه فهو يخلفه إذ لو كان المراد فهو يخلفه لكان معنى الآية أن الله يكون خليفة وليس الأمر كذلك بل فهو يخلفه أي يعطيكم خلفا عنه . ومنه الحديث: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ولا تقل واخلف لي خيرا منها بل وأخلف أي ارزقني خلفا عنها خيرا منها . فالله عز وجل وعد في كتابه أن ما أنفقه الإنسان فإن الله يخلفه عليه، يعطيه خلفا عنه، وهذا يفسره قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الأحاديث التي ساقها المؤلف مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا متفق عليه . والمراد بذلك من يمسك عما أوجب الله عليه من بذل المال فيه، وليس كل ممسك يدعى عليه بل الذي يمسك ماله عن إنفاقه فيما أوجب الله، فهو الذي تدعو عليه الملائكة بأن الله يتلفه ويتلف ماله . والتلف نوعان: تلف حسي، وتلف معنوي . 1 - التلف الحسي: أن يتلف المال نفسه بأن يأتيه آفة تحرقه أو يسرق أو ما أشبه ذلك . 2 - التلف المعنوي: أن تنزع بركته بحيث لا يستفيد الإنسان منه في حياته ومنه ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال لأصحابه: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وماله أحب إليه . فمالك أحب إليك من مال زيد وعمرو وخالد ولو كان من ورثتك قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر وهذه حكمة عظيمة ممن أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم فما لك الذي تقدمه لله عز وجل تجده أمامك يوم القيامة ومال الوارث ما يبقى بعدك من مالك فينتفع به ويأكله الوارث فهو مال وارثك على الحقيقة فأنفق مالك فيما يرضي الله، وإذا أنفقت فإن الله يخلفه وينفق عليك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك . وهذه الأحاديث كلها وكذلك الآيات تدل على أنه ينبغي للإنسان أن يبذل ماله حسب ما شرع الله عز وجل، كما جاء في الحديث الذي صدر به المؤلف هذا الباب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين يعني لا غبطة ولا أحد يغبط على ما أعطى الله سبحانه وتعالى من مال وغيره إلا في اثنتين فقط . الأولى: رجل أعطاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق صار لا يبذله إلا فيما يرضى الله، هذا يحسد لأنك الآن تجد التجار يختلفون منهم من ينفق أمواله في سبيل الله طبع الكتب إعانة على الجهاد وما أشبه ذلك فهذا سلط على هلكته في الحق . ومنهم من يسلطه على هلكته في اللذائذ المحرمة والعياذ بالله يسافر إلى الخارج فيزني ويشرب الخمر ويلعب القمار ويتلف ماله فيما يغضب الرب عز وجل فالذي سلطه الله على هلكة ماله في الحق يغبط لأن الغالب أن الذي يستغني يبطر ويمرح ويفسق فإذا رؤي أن هذا الرجل الذي أعطاه الله المال ينفقه في سبيل الله فهو يغبط . والثانية: رجل آتاه الحكمة يعني العلم، الحكمة هنا العلم كما قال الله تعالى: { وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }، فهو يقضي بها ويعلمها يقضي بها في نفسه وفي أهله وفي من تحاكم عنده ويعلمها الناس أيضا لا يقتصر على أن يأتيه الناس فيقول إذا جاءوني حكمت وقضيت بل يقضي ويعلم ويبدأ الناس بذلك فهذا لا شك أنه مغبوط على ما آتاه عز وجل من الحكمة . والناس في الحكمة ينقسمون إلى أقسام: قسم: آتاه الله الحكمة فبخل بها حتى على نفسه لم ينتفع بها في نفسه، ولم يعمل بطاعة الله ولم ينته عن معصية الله، فهذا خاسر والعياذ بالله وهذا يشبه اليهود الذين علموا الحق واستكبروا عنه . وقسم آخر: آتاه الله الحكمة فعمل بها في نفسه لكن لم ينتفع بها عباد الله وهذا خير من الذي قبله، لكنه ناقص . وقسم آخر: أعطاه الله الحكمة فقضى بها وعمل بها في نفسه وعلمها الناس، فهذا خير الأقسام . وهناك قسم رابع: لم يؤت الحكمة إطلاقا فهو جاهل وهذا حرم خيرا كثيرا لكنه أحسن حالا ممن أوتي الحكمة ولم يعمل بها لأن هذا يرجى إذا علم أن يتعلم ويعمل بخلاف الذي أعطاه الله العلم وكان علمه وبالا عليه والعياذ بالله
الشَّرْحُ
553 - وعن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها رواه مسلم .
556 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل رواه مسلم . قال المؤلف - رحمه الله تعالى - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا على الإسلام إلا أعطاه لأنه صلى الله عليه وسلم كان أكرم الناس، وكان يبذل ماله فيما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى . ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم إذا سأله شخص على الإسلام يعني على التأليف على الإسلام والرغبة فيه إلا أعطاه مهما كان هذا الشيء حتى إنه سأله أعرابي فأعطاه غنما بين جبلين أي أنها غنم كثيرة أعطاه إياها الرسول عليه الصلاة والسلام لما يرجو من الخير لهذا الرجل ولمن وراءه . ولذلك ذهب هذا الرجل إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر . عليه الصلاة والسلام يعني يعطي عطاء جزيلا عطاء من لا يخشى الفقر، فانظر إلى هذا العطاء كيف أثر في هذا الرجل هذا التأثير العظيم حتى أصبح داعية إلى الإسلام . وهو إنما سأل طمعا كغيره من الأعراب فالأعراب أهل طمع يحبون المال ويسألونه ولكنه لما أعطاه عليه الصلاة والسلام هذا العطاء الجزيل صار داعية إلى الإسلام فقال: يا قوم أسلموا ولم يقل: أسلموا تدخلوا الجنة وتنجوا من النار بل قال: أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر يعني سيعطيكم ويكثر . ولكنهم إذا أسلموا من أجل المال فإنهم لا يلبثون يسيرا إلا ويصير الإسلام أحب شيء إليهم أحب من الدنيا وما فيها ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الرجل تأليفا له على الإسلام حتى يسلم وإن كانت نيته للمال إلا أنه إذا دخل في الإسلام وتعلم محاسن الإسلام وقر الإيمان في قلبه . ويؤخذ من هذا الحديث وأمثاله: أنه لا ينبغي لنا أن نبتعد عن أهل الكفر وعن أهل الفسوق وأن ندعهم للشياطين تلعب بهم بل نؤلفهم ونجذبهم إلينا بالمال واللين وحسن الخلق حتى يألفوا الإسلام فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الكفار يعطيهم حتى من الفيء . بل إن الله جعل لهم حظا من الزكاة نعطيهم لنؤلفهم على الإسلام حتى يدخلوا في دين الله والإنسان قد يسلم للدنيا ولكن إذا ذاق طعم الإسلام رغب فيه حتى يكون أحب شيء إليه . قال بعض أهل العلم: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله فالأعمال الصالحة لابد أن تربي صاحبها على الإخلاص لله عز وجل والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام . وإذا كان هذا دأب الإسلام فيمن يعطي على الإسلام ويؤلف فإنه ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا نظرة جدية فنعطي من كان كافرا إذا وجدنا فيه قربا من الإسلام ونهاديه ونحسن له الخلق فإذا اهتدي فلئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم . وهكذا أيضا الفساق هادهم انصحهم باللين وبالتي هي أحسن ولا تقل أنا أبغضهم لله وادعهم إلى الله بغضك إياهم لله لا يمنعك أن تدعوهم إلى الله عز وجل وإن كنت تكرههم فلعلهم يكونون من أحبابك في الله يوما من الأيام . ثم ذكر المؤلف الحديث الآخر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ما نقصت صدقة من مال إذا تصدق الإنسان فإن الشيطان يقول له: إذا تصدقت نقص مالك، عندك مائة ريال إذا تصدقت بعشرة لم يكن عندك إلا تسعون إذا نقص المال فلا تتصدق كلما تصدقت ينقص مالك . ولكن من لا ينطق عن الهوى يقول: ما نقصت صدقة من مال قد تنقصه كما لكنها تزيده كيفا وبركة، وربما هذه العشرة يأتي بدلها مائة، كما قال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يجعل لكم خلفا عنه عاجلا وأجرا وثوابا آجلا قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ } وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أكرم الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة . الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة فينبغي لنا أن نكثر من الصدقة والإحسان وخصوصا في رمضان فنكثر من الصدقات والزكوات وبذل المعروف وإغاثة الملهوف وغير ذلك من أنواع البر والصلة . ويزيد العامة على قوله صلى الله عليه وسلم: ما نقصت صدقة من مال قولهم: بل تزده بل تزده وهذه لا صحة لها فلم تصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ما نقصت صدقة من مال . والزيادة التي تحصل بدل الصدقة إما كمية وإما كيفية . مثال الكمية: أن الله تعالى يفتح لك بابا من الرزق ما كان في حسابك . والكيفية أن ينزل الله لك البركة فيما بقي من مالك . ثم قال صلى الله عليه وسلم: وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا إذا جني عليك أحد وظلمك في مالك أو في بدنك أو في أهلك أو في حق من حقوقك فإن النفس شحيحة تأبى إلا أن تنتقم منه، وأن تأخذ بحقك وهذا لك قال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقال تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ولا يلام الإنسان على ذلك لكن إذا هم بالعفو وحدث نفسه بالعفو قالت له نفسه الأمارة بالسوء: إن هذا ذل وضعف كيف تعفو عن شخص جني عليك أو اعتدى عليك ؟ وهنا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا والعز ضد الذل وما تحدثك به نفسك أنك إذا عفوت فقد ذللت أمام من اعتدى عليك فهذا من خداع النفس الأمارة بالسوء ونهيها عن الخير فإن الله تعالى يثيبك على عفوك هذا عزا ورفعة في الدنيا والآخرة . ثم قال صلى الله عليه وسلم وما تواضع أحد لله إلا رفعه والتواضع من هذا الباب أيضا فبعض الناس تراه متكبرا ويظن أنه إذا تواضع للناس نزل ولكن الأمر بالعكس إذا تواضعت للناس فإنك تتواضع لله أولا ومن تواضع لله يرفعه ويعلي شأنه . وقوله: تواضع لله لها معنيان: المعنى الأول: أن تتواضع لله بالعبادة وتخضع وتنقاد لأمر الله . والمعنى الثاني: أن تتواضع لعباد الله من أجل الله وكلاهما سبب للرفعة سواء تواضعت لله بامتثال أمره واجتناب نهيه وذلك له وعبدته أو تواضعت لعباد الله من أجل الله لا خوفا منهم ولا مداراة لهم، ولا طلبا لمال أو غيره، إنما تتواضع من أجل الله عز وجل فإن الله تعالى يرفعك في الدنيا وفي الآخرة . فهذه الأحاديث كلها تدل على فضل الصدقة والتبرع وبذل المعروف والإحسان إلى الغير وأن ذلك من خلق النبي صلى الله عليه وسلم
الشَّرْحُ
باب النهي عن البخل والشح
قال الله تعالى: { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } وقال تعالى: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . ذكر المؤلف - رحمه الله - في كتابه رياض الصالحين باب النهي عن البخل والشح والبخل: هو منع ما يجب وما ينبغي بذله . والشح: هو الطمع فما ليس عنده وهو أشد من البخل لأن الشحيح يطمع فيما عند الناس ويمنع ما عنده والبخيل يمنع ما عنده مما أوجب الله عليه من زكاة ونفقات ومما ينبغي بذله فيما تقتضيه المروءة . وكلاهما - أعني البخل والشح - خلقان ذميمان فإن الله سبحانه وتعالى ذم من يبخلون ويأمرون الناس بالبخل فقال: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثم استدل المؤلف - رحمه الله - بآيتين من كتاب الله: الآية الأولى: وهي في البخل وهي قوله تعالى: { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } وهذه الآيات قسيم الآيات التي قبلها وهي قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } فالإنسان المصدق بالحق المعطي لما يجب إعطاؤه وبذله من علم ومال وجاه المتقي لله عز وجل هذا ييسر لليسرى أي ييسره الله تعالى لأيسر الطرق في الدنيا والآخرة . وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حينما حدثهم فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومن النار يعني أنه أمر مفروغ منه، قالوا يا رسول الله أفلا نتكل وندع العمل ؟ يعني نتكل على ما كتب لنا وندع العمل قال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } فأنت فكر في نفسك هل عندك تصديق وإعطاء وبذل لما يجب بذله وتقوى لله عز وجل فإنك موفق ميسر لليسرى، والعكس بالعكس . الشاهد من هذه الآية في الباب قوله: { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } بخل بما يجب بذله من مال أو جاه أو علم . ومن ذلك ما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: البخيل من إذا ذكرت عنده لم يصل علي عليه الصلاة والسلام وهذا بخل بما يجب على الإنسان إذا سمع ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام الذي هداه الله على يديه، وكان الأولى به والأجدر أن يبادر بالصلاة والسلام عليه . وقوله: { وَاسْتَغْنَى } أي استغنى بنفسه وزعم أنه مستغن عن رحمة الله والعياذ بالله فلا يعمل ولا يستقيم على أمر الله . { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } أي كذب بالكلمة الحسنى وهي قول الحق، وهي ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } تعسر عليه الأمور التي تسهل على المتقي فلا تسهل عليه الطاعات يجد الطاعات ثقيلة الصلاة ثقيلة والصدقة ثقيلة والصيام ثقيل والحج ثقيل كل شيء متعسر عنده . { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } يعني أي شيء يغني عنه ماله إذا هلك ؟ والجواب أنه لا يغني عنه شيئا فهذا المال الذي بخل به لا يحميه من عذاب الله وعقابه ولا يغني عنه شيئا . وأما الآية الثانية: فهي في الشح وهي قوله تعالى: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } يعني من يقيه الله شح نفسه فلا يطمع فيما ليس له فهذا هو المفلح
الشَّرْحُ
563 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم رواه مسلم . : قال المؤلف - رحمه الله - في كتاب رياض الصالحين في باب النهي عن البخل والشح فيما رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة اتقوا الظلم بمعني احذروه، واتخذوا وقاية منه وابتعدوا عنه، والظلم: هو العدوان على الغير، وأعظم الظلم وأشده الشرك بالله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم ويشمل الظلم ظلم العباد، وهو نوعان: ظلم بترك الواجب لهم، وظلم العدوان عليهم بأخذ أو انتهاك حرماتهم . فمثال الأول: ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: مطل الغني ظلم يعني ممانعة الإنسان الذي عليه دين عن الوفاء وهو غني قادر على الوفاء ظلم، وهذا منع ما يجب لأن الواجب على الإنسان أن يبادر بالوفاء إذا كان له قدرة ولا يحل له أن يؤخر فإن أخر الوفاء وهو قادر عليه كان ظالما والعياذ بالله . والظلم ظلمات يوم القيامة، وكل ساعة أو لحظة تمضي على المماطل لا يزداد بها إلا إثما والعياذ بالله، وربما يعسر الله عليه أمره فلا يستطيع الوفاء إما بخلا وإما إعداما لأن الله تعالى يقول: { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } . فمفهوم الآية أن من لا يتقي الله لا يجعل له من أمره يسرا، ولذلك يجب على الإنسان القادر أن يبادر بالوفاء إذا طلبه صاحبه، أو أجله وانتهى الأجل . ومن الظلم أيضا اقتطاع شيء من الأرض، قال النبي عليه الصلاة والسلام: من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه يوم القيامة من سبع أرضين . ومن الظلم الاعتداء على الناس في أعراضهم بالغيبة أو النميمة أو ما أشبه ذلك، فإن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره في غيبته فإن كان في حضرته فهو سب وشتم فإذا ظلم الناس بالغيبة بأن قال: فلان طويل . فلان سيئ الخلق . فلان فيه كذا، فهذه غيبة وظلم يحاسب عليها يوم القيامة . وكذلك أيضا إذا جحد ما يجب عليه جحودا، بأن كان لفلان عليه حق، فيقول ليس له علي حق ويكتم فإن هذا ظلم، لأنه إذا كانت المماطلة ظلما فهذا أظلم، كمن جحد شيئا واجبا عليه، فإنه ظالم . وعلى كل حال اتقوا الظلم بجميع أنواعه، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة يكون على صاحبه - والعياذ بالله - ظلمات بحسب الظلم الذي وقع منه، الكبير ظلماته كبيرة، والكثير ظلماته كثيرة كل شيء بحسبه قال تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } وفي هذا دليل على أن الظلم من كبائر الذنوب لأنه لا وعيد إلا على كبيرة من كبائر الذنوب فظلم العباد وظلم الخالق عز وجل رب العباد كله من كبائر الذنوب . ثم قال صلى الله عليه وسلم: واتقوا الشح يعني الطمع في حقوق الغير . اتقوه . أي احذروا منه واجتنبوه فإنه أهلك من كان قبلكم يعني من الإثم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم فكان هلاكهم بذلك - والعياذ بالله
الشَّرْحُ
باب الإيثار والمواساة