باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان أو الخوف من فتنة في الدين ووقوع في حرام وشبهات ونحوها
قال الله تعالى: { فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .
597 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي رواه مسلم والمراد بـ الغني غني النفس . كما سبق في الحديث الصحيح .
598 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال: ثم من ؟ قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه وفي وراية يتقي الله ويدع الناس من شره متفق عليه .
599 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال مواقع القطر يفر بدينه من الفتن رواه البخاري . قال المؤلف - رحمه الله تعالى - باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان وخوف الفتنة . واعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانا تحصل أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة مثل أن يكون في بلد يطالب فيها بأن ينحرف عن دينه أو يدعو إلى بدعة أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، فهنا تكون العزلة خيرا له . ولهذا أمر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة فكذلك إذا تغير الناس والزمان، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن فهذا هو التقسيم تكون العزلة هي الخير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في الدين، وإلا فالأفضل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يدعو إلى حق، يبين السنة للناس فهذا خير . لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن، فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد . وبين النبي عليه الصلاة والسلام صفة الرجل الذي يحبه الله عز وجل فقال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي التقي: الذي يتقي الله عز وجل فيقوم بأوامره ويجتنب نواهيه يقوم بأوامره من فعل الصلاة وأدائها في جماعة يقوم بأوامره من أداء الزكاة وإعطائها مستحقيها يصوم رمضان يحج البيت يبر والديه يصل أرحامه يحسن إلى جيرانه يحسن إلى اليتامى إلى غير ذلك من أنواع التقى والبر وأبواب الخير . الغني: الذي استغنى بنفسه عن الناس غنى بالله عز وجل عمن سواه لا يسأل الناس شيئا ولا يتعرض للناس بتذلل بل هو غني عن الناس مستغن بربه، لا يلتفت إلى غيره . الخفي: هو الذي لا يظهر نفسه ولا يهتم أن يظهر عند الناس أو يشار إليه بالبنان أو يتحدث الناس عنه تجده من بيته إلى المسجد، ومن مسجده إلى بيته ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه، يخفي نفسه . ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علما أن يتقوقع في بيته ولا يعلم الناس، هذا يعارض التقي فتعليمه الناس خير من كونه يقبع في بيته ولا ينفع أحدا بعلمه أو يقعد في بيته ولا ينفع الناس بماله . لكن إذا دار الأمر بين أن يلمع نفسه ويظهر نفسه ويبين نفسه، وبين أن يخفيها، فحينئذ يختار الخفاء، أما إذا كان لابد من إظهار نفسه فلابد أن يظهرها وذلك عن طريق نشر علمه في الناس وإقامة دروس العلم وحلقاته في كل مكان، وكذلك عن طريق الخطابة في يوم الجمعة والعيد وغير ذلك، فهذا مما يحبه الله عز وجل .
الشَّرْحُ
600 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت ؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة رواه البخاري .
601 - وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من خير معاش الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير رواه مسلم . يطير أي يسرع . ومتنه ظهره . و الهيعة الصوت للحرب . هذان الحديثان في باب استحباب العزلة عن فساد الناس: الأول حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم يعني ما من نبي من الأنبياء أرسله الله عز وجل إلى عباده إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة حتى النبي عليه الصلاة والسلام رعى الغنم قال العلماء والحكمة من ذلك أن يتمرن الإنسان على رعاية الخلق وتوجيههم إلى ما فيه الصلاح، لأن الراعي للغنم تارة يوجهها إلى واد مزهر مخضر، وتارة إلى واد خلاف ذلك، وتارة يبقيها واقفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام سيرعى الأمة ويوجهها إلى الخير عن علم وهدى وبصيرة كالراعي الذي عنده علم بالمراعي الحسنة، وعنده نصح وتوجيه للغنم إلى ما فيه خيرها، وما فيه غذاؤها وسقاؤها . واختيرت الغنم لأن صاحب الغنم متصف بالسكينة والهدوء والاطمئنان بخلاف الإبل، الإبل أصحابها في الغالب عندهم شدة وغلظة، لأن الإبل كذلك فيها الشدة والغلظة، فلهذا اختار الله سبحانه وتعالى لرسله أن يرعوا الغنم حتى يتعودوا ويتمرنوا على رعاية الخلق . فرسول الله صلى الله عليه وسلم رعاها على قراريط لأهل مكة وموسى عليه الصلاة والسلام رعاها مهرا لابنة صاحب مدين، فإنه قال: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وأما الحديث الثاني: ففيه أيضا دليل على أن العزلة خير فيكون الإنسان ممسكا بعنان فرسه، يطير عليه كلما سمع هيعة فهو بعيد عن الناس يحمي ثغور المسلمين مهتم بأمور الجهاد على أتم استعداد للنفور والجهاد كلما سمع هيعة ركب فرسه فطار به أي مشى مشيا مسرعا . وكذلك من كان في مكان من الأودية والشعاب منعزلا عن الناس، يعبد الله عز وجل ليس من الناس إلا في خير فهذا فيه خير . ولكننا سبق أن قلنا إن هذه النصوص تحمل على ما إذا كان في الاختلاط فتنة وشر، وأما إذا لم يكن فيه فتنة وشر، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم .
الشَّرْحُ
باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين