8 - وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله متفق عليه .
الشَّرْحُ
وفي لفظ للحديث: ويقاتل ليرى مكانه أي في ذلك سبيل الله ؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقوله: من قاتل لتكون في هذا إخلاص النية لله عز وجل وهذا الذي ساق المؤلف الحديث من أجله .
فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذي يقاتل على أحد الوجوه الثلاثة .
شجاعة، وحمية، وليرى مكانه .
أما الذي يقاتل شجاعة: فمعناه أنه رجل شجاع يحب القتال لأن الرجل الشجاع متصف بالشجاعة، والشجاعة لابد لها من ميدان تظهر فيه فتجد الشجاع يحب أن الله ييسر له قتالاً ليقاتل ويظهر شجاعة .
فهو يقاتل لأنه شجاع يحب القتال .
الثاني: يقاتل حمية حمية على قومية، حمية على قبيلة، حمية على وطن، حمية لأي عصبية كانت .
الثالث: يقاتل ليرى مكانه: أي ليراه ويعرفوا أنه شجاع فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال كلمة موجزة ميزاناً للقتال فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وعدل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذه الثلاثة ليكون أعم وأشمل لأن الرجل ربما يقاتل من أجل الاستيلاء على الأوطان والبلدان، يقاتل من أجل أن يحصل على امرأة يسيبها من هؤلاء القوم .
المهم أن النيات ما لها حد لكن هذا الميزان الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ميزان تام عدل ومن هنا نعلم أنه يجب أن تعدل اللهجة التي يتفوه بها اليوم كثير من الناس .
اللهجة لهجتان .
لهجة قوم يقاتلون للقومية، القومية العربية والقتال للقومية العربية قتال جاهلي، من قتل فيه فليس شهيداً، فقد الدنيا وخسر الآخرة، لأن ذلك ليس في سبيل الله .
لذلك على الرغم من قوة الدعاية للقومية العربية لم نستفد منها شيئاً .
اليهود استولوا على بلادنا، نحن تفككنا، دخل في ميزان هذه القومية قوم كفار من النصارى وغير النصارى وخرج منها مسلمون من غير العرب فخسرنا ملايين العالم من أجل هذه القومية، ودخل فيها قوم لا خير فيهم، قوم إذا دخلوا في شيء كتب عليه الخذلان والخسارة .
واللهجة الثانية: قوم يقاتلون للوطن، ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه .
والذي يقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد .
ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك، الواجب أن يقاتل من أجل الإسلام في بلادنا .
انتبه للفرق نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا سواء كان في أقصى الشرق والغرب، فيجب أن تصحح هذه النقطة: فيقال نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي ندافع عن الإسلام الذي فيه .
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإسلام شيئاً، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن .
وما يذكر من أن حب الوطن من الإيمان وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذب .
حب الوطن إن كان إسلامياً فهذا تحبه لأنه إسلامي، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين، كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه .
على كل حال يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي لا لمجرد الوطنية .
أما قتال الدفاع: أي لو أحداً صال عليك في بيتك يريد أخذ مالك أو أن ينتهك عرض أهلك مثلاً فإنك تقاتله كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام .
فقد سئل عن الرجل يأتيه الإنسان ويقول له: أعطني مالك ؟ قال: لا تعطه قال أرأيت إن قاتلني ؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني ؟ قال: إن قتلك فأنت شهيد .
قال: أرأيت إن قتلته ؟ قال: إن قتلته فهو في النار لأنه معتد ظالم حتى وإن كان مسلماً، إذا جاءك المسلم يريد أن يقاتلك من أجل أن يخرجك من بلدك أو من بيتك فقاتله إن قتلته فهو في النار وإن قتلك فأنت شهيد .
لا تقل كيف أقتل مسلماً ؟ هو المعتدي: ولو كتفنا أيدينا أمام المعتدين الظالمين الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا ديناً، لكان المعتدون لهم السلطة ولأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ولذلك نقول: هذه المسألة ليست من باب قتال الطلب .
قتال الطلب معلوم إنني لا أذهب أقاتل مسلماً أطلبه، ولكن أدفع عن مالي ونفسي وأهلي ولو كان مؤمناً مع أنه لا يمكن أبداً أن يكون شخص معه إيمان يقدم على مسلم يقاتله ليستولي على أهله وماله أبداً .
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر لا إيمان لإنسان يقاتل المسلمين إطلاقاً فإذا كان الرجل فاقداً الإيمان أو ناقص الإيمان فيجب أن نقاتله دفاعاً عن النفس وجوباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قاتله وقال: إن قتلته فهو في النار وقال: وإن قتلك فأنت شهيد .
الحاصل أن هناك قتالين: قتالاً للطلب أذهب أنا أقاتل الناس مثلاً في بلادهم هذا لا يجوز إلا في شروط معينة .
مثلاً: قال العلماء إذا ترك أهل قرية الأذان وهو ليس من أركان الإسلام وجب على ولي الأمر أن يقاتلهم حتى يؤذنوا لأنهم تركوا شعيرة من شعائر الإسلام .
وإذا تركوا صلاة العيد، وقالوا لا نصليها لا في بيوتنا ولا في الصحراء يجب أن نقاتلهم، حتى لو فرض أن قوماً حاجونا وقالوا: هل الأذان من أركان الإسلام قلنا: لا ولكنه من شعائر الإسلام فنقاتلكم حتى تؤذنوا .
إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين وجب علينا أن نصلح بينهما فإن بغت إحداهما على الأذب وجب أن نقاتلها حتى تفيء إلى أمر الله مع أنها مؤمنة، ولكن هناك فرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب، الطلب ما نطلب إلا من أباح الشارع قتاله وأما الدفاع فلابد أن يدافع .
والحاصل أنه لابد من تصحيح النية، ونرجو منكم أن تنبهوا على هذه المسألة لأننا نرى في الجرائد والصحف الوطن الوطن الوطن وليس فيها ذكر للإسلام وهذا نقص عظيم يجب أن توجه الأمة إلى النهج والمسلك الصحيح ونسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى .
9 - وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه متفق عليه
الشَّرْحُ
قوله: إذا التقى المسلمان بسيفيهما أي: يريد كل واحد منهما أن يقتل الآخر فسل عليه السيف وكذلك لو أشهر عليه السلاح كالبندقية أو غيرهما مما يقتل كحجر ونحوه .
فذكر السيف هنا على سبيل التمثيل وليس على سبيل اليقين بل إذا التقى المسلمان بأي وسيلة يكون بها القتل فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار والعياذ بالله فقال أبو بكرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا القاتل ؟ يعني أن كونه في النار واضح لأنه قتل نفساً مؤمنة متعمداً والذي يقتل نفساً مؤمنة متعمداً بغير حق فإنه في نار جهنم .
قال الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً فأبو بكرة رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا القاتل وهذه الجملة هي ما يعرف في باب المناظر بالتسليم يعني سلمنا أن القاتل في النار فما بال المقتول كيف يكون في النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه فهو حريص على قتل صاحبه ولهذا جاء بآلة القتل ليقتله ولكن تفوق عليه الآخر فقتله فيكون هذا والعياذ بالله بنيته القتل وعمله السبب الموصل للقتل يكون كأنه قاتل ولهذا قال لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه .
ففي هذا الحديث: دليل على أن الأعمال بالنيات وأن هذا لما نوى قتل صاحبه صار كأنه فاعل ذلك أي كأنه قاتل وبهذا نعرف الفرق بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد وقوله فيمن أتى ليأخذ مالك: إن قتلته فهو في النار وإن قتلك فأنت شهيد .
وذلك لأن الإنسان الذي يدافع عن ماله وأهله ونفسه وعرضه إنما دافع رجلاً معتدياً صائلاً لا يندفع إلا بالقتل، فهنا إذا قتل الصائل كان في النار وإن قتل الدافع كان شهيداً في الجنة فهذا هو الفرق بينهما، فبهذا علم أن من قتل أخاه مريداً لقتله فإنه في النار ومن قتله أخوه وهو يريد قتل أخيه لكن عجز فالمقتول أيضاً في النار .
وفي هذا الحديث: دليل على عظم القتل وأنه من أسباب دخول النار والعياذ بالله .
وفيه: دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يوردون على الرسول صلى الله عليه وسلم الشبهة فيجيب عنها .
ولهذا لا نجد شيئاً من الكتاب والسنة فيه شبهة حقيقية إلا وقد وجد حلها، إما أن يكون حلها بنفس الكتاب والسنة من غير إيراد سؤال وإما أن يكون بإيراد سؤال يجاب عنه .
ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً اليوم الأول كسنة والثاني كشهر والثالث كالأسبوع وبقية الأيام كأيامنا سأله الصحابة هذا اليوم كسنة هل تكفينا فيه صلاة يوم واحد ؟ قال: لا، لكن اقدروا له قدره ففي هذا أبين دليل على أنه لا يوجد والحمد لله في الكتاب والسنة شيء مشتبه لا حل له لكن الذي يوجد قصور الأفهام تعجز عن معرفة الحل أو تقصير في الطلب والتأمل والتفتيش فيشتبه عليه الأمر .
أما في الواقع فليس في الكتاب والسنة شيء مشتبه إلا وجد حله في الكتاب أو السنة إما ابتداء وإما جواباً عن سؤال يقع من الصحابة والله الموفق .
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعاً وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لا ينهزه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه متفق عليه، وهذا لفظ مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: ينهزه هو بفتح الياء والهاء وبالزاي: أي يخرجه وينهضه .
الشَّرْحُ
معنى الحديث: أنه إذا صلى الإنسان في المسجد مع الجماعة كانت هذه الصلاة أفضل من الصلاة في بيته أو في سوقه سبعاً وعشرين مرة لأن الصلاة مع الجماعة قيام بما أوجب الله من صلاة الجماعة .
فإن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجماعة فرض عين وأنه يجب على الإنسان أن يصلي مع الجماعة في المسجد لأحاديث وردت في ذلك ولما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في كتابه حيث قال: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك فأوجب الله الجماعة في حال الخوف فإذا أوجبها في حال الخوف ففي حال الأمن من باب أولى وأحرى .
ثم ذكر السبب في ذلك بأن الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء ثم خرج من بيته إلى المسجد لا ينهزه أو لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة سواء أقرب مكانه من المسجد أم بعد، كل خطوة يحصل به فائدتان: الفائدة الأولى: أن الله يرفعه بها درجة .
والفائدة الثانية: أن الله يحط عنه بها خطيئة وهذا فضل عظيم .
وقوله: فإنه في صلاة ما انتظر الصلاة وهذه أيضاً نعمة عظيمة لو بقيت منتظراً للصلاة مدة طويلة وأنت جالس لا تصلي بعد أن صليت تحية المسجد وما شاء الله فإنه يحسب لك أجر الصلاة لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة وهناك أيضاً شيء رابع: أن الملائكة تصلي عليه مادام في مجلسه الذي صلى فيه تقول اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه وهذا أيضاً فضل عظيم لمن حضر بهذه النية وبهذه الأفعال .
والشاهد من هذا الحديث قوله: ثم خرج من بيته إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة فإنه يدل على اعتبار النية في حصول هذا الأجر العظيم .
أما لو خرج من بيته لا يريد الصلاة فإنه لا يكتب له هذا الأجر مثل أن يخرج إلى دكانه لما أذن ذهب يصلي فإنه لا يحصل على هذا الأجر لأن الأجر إنما يحصل لمن خرج من البيت لا يخرجه إلا الصلاة .
لكن ربما يكتب له الأجر من حين أن ينطلق من دكانه أو من مكان بيعه وشرائه إلى أن يصل إلى المسجد ما دام انطلق من هذا المكان وهو على طهارة والله الموفق .
11 - وعن أبي العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك: فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة متفق عليه .
الشَّرْحُ
قوله: إن الله كتب الحسنات والسيئات كتابته للحسنات والسيئات تشمل معنيين: المعنى الأول: كتابة ذلك في اللوح المحفوظ فإن الله تعالى كتب فيه كل شيء كما قال الله: إنا كل شيء خلقناه بقدر وقال تعالى: { وكل صغير وكبير مستطر } فالله سبحانه وتعالى كتب السيئات والحسنات في اللوح المحفوظ .
والمعنى الثاني: كتابته إياهما إذا عملها العبد فإن الله تعالى يكتبها حسب ما تقتضيه حكمته وحسب ما يقتضيه عدله وفضله .
فهاتان كتابتان: كتابة سابقة: لا يعلمها إلا الله عز وجل فكل واحد منا لا يعلم ماذا كتب الله له من خير أو شر حتى يقع ذلك الشيء .
وكتابة لاحقة: إذا عمل الإنسان العمل كتب له حسب ما تقتضيه الحكمة والعدل والفضل: ثم بين ذلك أي: ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كيف يكتب فبين أن الإنسان إذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة .
هم أن يتصدق وعين المال الذي يريد أن يتصدق به ثم أمسك ولم يتصدق فيكتب له بذلك حسنة كاملة .
هم أن يصلي ركعتين فأمسك ولم يصل فإنه يكتب له بذلك حسنة كاملة .
فإن قال قائل: كيف يكتب له حسنة وهو لم يفعلها ؟ فالجواب على ذلك: أن يقال إن فضل الله واسع، هذا الهم الذي حدث منه يعتبر حسنة لأن القلب همام إما بخير أو بشر فإذا هم بالخير فهذه حسنة تكتب له فإن عملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
وهذا التفاوت مبني على الإخلاص والمتابعة فكلما كان الإنسان في عبادته أخلص لله كان أجره أكثر وكلما كان الإنسان أتبع في عبادته للرسول صلى الله عليه وسلم كانت عبادته أكمل وثوابه أكثر .
وأما السيئة فقال: وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة كرجل هم أن يسرق ولكن ذكر الله عز وجل فأدركه خوف الله فترك السرقة فإنه يكتب له بذلك حسنة كاملة لأنه ترك فعل المعصية لله فأثيب على ذلك كما جاء ذلك مفسراً في لفظ آخر: لأنه تركها من جراي أي من أجلي .
فإن عمل السيئة كتبت سيئة واحدة فقط لا تزيد لقوله تعالى: { ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } وهذا الحديث فيه: دليل على اعتبار النية وأن النية قد توصل صاحبها إلى الخير .
وسبق لنا أن الإنسان إذا نوى الشر وعمل العمل الذي يوصل إلى الشر ولكنه عجز عنه فإنه يكتب عليه إثم الفاعل كما سبق فيمن التقيا بسيفيهما من المسلمين: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه والله الموفق .
12 - وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، قال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه قال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها وفي رواية فلما قعدت بين رجليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهى أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها وقال الثالث اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون متفق عليه .
الشَّرْحُ
قوله انطلق ثلاثة نفر أي ثلاثة رجال .
فآواهم المبيت فدخلوا في غار يعني ليبيتوا فيه، والغار هو ما يكون في الجبل مما يدخله الناس يبيتون فيه أو يتظللون فيه عن الشمس وما أشبه ذلك فهم دخلوا حين آواهم المبيت إلى هذا الغار فتدحرجت عليهم صخرة من الجبل حتى سدت عليهم باب الغار، ولم يستطيعوا أن يزحزحوها لأنها صخرة كبيرة فرأوا أن يتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم .
فذكر أحدهم بره التام بوالديه، وذكر الثاني عفته التامة، وذكر الثالث ورعه ونصحه .
أما الأول: يقول إنه كان له أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا الأهل مثل الزوجة والأولاد والمال مثل الأرقاء وشبهه .
وكان له غنم فكان يسرح فيها ثم يرجع في آخر النهار ويحلب الغنم ويعطي أبويه الشيخين الكبيرين ثم يعطي بقية أهله وماله .
يقول: فنأى به طلب الشجر ذات يوم أي أبعد بي طلب الشجر الذي يرعاه فرجع فوجد أبويه قد ناما فنظر هل يسقي أهله وماله قبل أبويه أو ينتظر حتى يستيقظ الأبوان فرجح الثاني يعني أنه بقي فأمسك الإناء بيده حتى برق الفجر، أي حتى طلع الفجر وهو ينتظر أبويه فلما استيقظا وشربا اللبن أسقى أهله وماله .
قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه والمعنى إن كنت مخلصاً في عملي هذا فعلته من أجلك ففرج عنا ما نحن فيه .
وفي هذا: دليل على الإخلاص لله عز وجل في العمل وأن الإخلاص عليه مدار كبير في قبول العمل فتقبل الله منه هذه الوسيلة وانفرجت الصخرة لكن انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه .
الثاني توسل إلى الله عز وجل بالعفة التامة وذلك أنه كان له ابنة عم وكان يحبها حباً شديداً كأشد ما يحب الرجال النساء فأراداها عن نفسها أي بالزنا ليزني بها ولكنها لم توافق وأبت، فألمت بها سنة من السنين أي أصابها فقر وحاجة فاضطرت إلى أن تجود بنفسها في الزنا من أجل الضرورة وهذا لا يجوز، ولكن هذا الذي حصل فجاءت إليه فأعطاها مائة وعشرين ديناراً أي: مائة وعشرين جنيهاً من أجل أن تمكنه من نفسها .
ففعلت من أجل الحاجة والضرورة، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته على أنه يريد أن يفعل بها قالت هذه الكلمة العجيبة العظيمة: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه .
فخوفته بالله عز وجل وأشارت إليه إلا أنه إن أراد هذا بالحق فلا مانع عندها لكن كونه يفض الخاتم بغير حق هي لا تريده، ترى أن هذا من المعاصي ولهذا قالت له اتق الله فلما قالت هذه الكلمة التي خرجت من أعماق قلبها دخلت في أعماق قلبه وقام عنها وهي أحب الناس إليه، يعني ما زالت رغبته عنها ولا كرهها بل حبها باق في قلبه، لكن أدركه خوف الله عز وجل فقام عنها وترك لها الذهب الذي أعطاها مائة وعشرين ديناراً، ثم قال: اللهم إن كنت فعلت هذا لأجلك فافرج عنا ما نحن فيه فانفجرت الصخرة إلا أنهم لا يستطيعون الخروج وهذا من آيات الله لأن الله على كل شيء قدير لو شاء الله تعالى لانفرجت عنهم لأول مرة .
ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يبقي هذه الصخرة حتى يتم لكل واحد منهم ما أراد أن يتوسل به من صالح الأعمال .
أما الثالث فتوسل إلى الله عز وجل بالأمانة والإصلاح والإخلاص في العمل فإنه يذكر أنه استأجر أجراء، على عمل من الأعمال فأعطاهم أجورهم إلا رجلاً واحداً ترك أجره فلم يأخذه، فقام هذا المستأجر فثمر المال فصار يتكسب به بالبيع والشراء وغير ذلك حتى نما وصار منه إبل وبقر وغنم ورقيق وأموال عظيمة .
فجاءه بعد حين فقال له يا عبد الله أعطني أجري فقال له كل ما ترى فهو لك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال لا تستهزئ بي، الأجرة التي لي عندك قليلة كيف لي كل ما أرى من الإبل والبقر والغنم والرقيق لا تستهزئ بي فقلت هو لك فأخذه واستاقه كله ولم يترك له شيئاً اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وانفتح الباب فخرجوا يمشون لأنهم توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي فعلوها إخلاصا لله عز وجل .
ففي هذا الحديث من الفوائد والعبر فضيلة بر الوالدين وأنه من الأعمال الصالحة التي يفرج بها الكربات ويزيل بها الظلمات .
وفيه فضيلة العفة عن الزنا وأن الإنسان إذا عف عن الزنا مع قدرته عليه فإن ذلك من أفضل الأعمال وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله .
فهذا الرجل مكنته هذه المرأة التي يحبها من نفسها فقام خوفاً من الله عز وجل فحصل عنده كمال العفة فيرجى أن يكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
وفي هذا الحديث دليل على فضل الأمانة وإصلاح العمل للغير فإن هذا الرجل بإمكانه لما جاءه الأجير أن يعطيه أجره ويبقي هذا المال له، ولكن لأمانته وثقته وإخلاصه لأخيه ونصحه له أعطاه كل ما أثمر أجره .
ومن فوائد هذا الحديث بيان قدرة الله عز وجل حيث إنه تعالى أزال عنهم الصخرة بإذنه لم تأت سيارة تزيلها ولم يأت رجال يزحزحونها وإنما هو أمر الله عز وجل .
أمر الله هذه الصخرة أن تنحدر فتنطبق عليهم ثم أمرها أن تنفرج عنهم والله سبحانه على كل شيء قدير .
وفيه من العبر: أن الله سميع الدعاء فإنه سمع دعاء هؤلاء واستجاب لهم .
وفيه من العبر: أن الإخلاص من أسباب تفريج الكربات لأن كل واحد منهم يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه .
أما الرياء والعياذ بالله والذي لا يعمل الأعمال إلا رياء وسمعة حتى يمدح عند الناس فإن هذا كالزبد يذهب جفاء لا ينتفع منه صاحبه نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص له .
الإخلاص هو كل شيء لا تجعل نصيباً من عبادتك لأحد اجعلها كلها لله عز وجل حتى تكون مقبولة عند الله لأنه ثبت عن النبي، فيما يرويه عن الله أنه قال: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه والله الموفق .
باب التوبة