شرح حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
رياض الصالحين
شرح حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحديث الثامن في باب المراقبة هو: حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))([1])، قال حديث حسن رواه الترمذي وغيره.
علاقة هذا الحديث بباب المراقبة ظاهرة، وذلك أن من استحضر أن الله -عز وجل- يراه ويسمع كلامه، ويطلع على حاله، وأنه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، فإنه لا يتكلم إلا فيما يعلم أن هذا الكلام ينفعه ويسعفه أحوج ما يكون إليه، وكذلك حينما يهم بعمل من الأعمال فإنه ينظر هل هذا العمل يقربه إلى الله، أو أن ذلك يضره في الآخرة؟.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حسن إسلام المرء)) يعني: من كمال إسلامه، ونحن نقرأ كثيراً في تراجم بعض الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أنه أسلم عام كذا وحسُن إسلامه، بمعنى: أنه كمّله وصححه، فلم يداخله شيء من التردد، والضعف، والنفاق فيكون من الذين في قلوبهم مرض، ضعف الإيمان، أو كان من الذين في قلوبهم نفاق.
فحسْن إسلام المرء أن يكمله، وأن يصححه، فكيف يصحَّح هذا الإيمان؟ وكيف يصحَّح الإسلام؟ وكيف يكمَّل؟ يكمل بجملة أمور من أعظمها وأهمها وأبرزها:
أن يترك ما لا يعنيه، وظاهر هذا اللفظ العموم، يعني: في كل الأمور، فيدخل فيه ما يتعلق بالقلب، وما يتعلق باللسان، وما يتعلق بالجوارح.
أما القلب: فهو أشرف هذه الأعضاء، فلا يجعل هذا القلب للأفكار السيئة، والخواطر الرديئة، ومستقراً للإرادات الفاسدة، ولا يسترسل في التفكير فيما يتعلق بأمور الشهوات المحرمة، أو يسترسل في التفكير فيما يتعلق بالشبهات، فهذا من الاشتغال بما لا يعني، ومن التفكير بما لا يعني، ويدخل فيه أيضاً فعل بعض النَّوْكَى، وهم الذين فسد تفكيرهم، وفسدت إراداتهم، وهؤلاء هم الذين يعيشون بأحلام كما يقال، يعني: هو يفكر ويتخيل أنه غنيّ، أو يفكر ويتخيل أنه مطيع لله -عز وجل-، أو يفكر ويتخيل أنه استطاع أن يبيع هذه القطعة، أو هذا الماء القليل، ثم ربح فيه، ثم اشترى ثانياً فصار عنده أكثر، ثم اشترى ثلاثة، ثم أربعة، ثم صار يملك الملايين، هذا تفكير فاسد لا يجلب عليه نفعاً، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فهذا فعل العاجز يجلس يعيش في أحلام وردية كما يقال، لكنه لا يعمل عملاً جاداً في الحياة ينفعه في دنياه وفي آخرته، هذا ما يتعلق بالقلب.
أما ما يتعلق بالجوارح: فأن يشغل جوارحه بما لا يعنيه، بما لا ينفعه في الدنيا، وبما لا ينفعه في الآخرة، كالذي يلعب الورق، أو يضيع الزمان في ألعاب لا تنفعه، لا تقوي بدنه، ولا يحصل له بهذه الأمور نفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقل مثل ذلك فيما يحصل من الاشتغال بألوان المحرمات، فهو اشتغال بما لا يعني، وقل مثل ذلك أيضاً فيما يحصل به فضول النظر، وفضول الأكل، وفضول الخلطة والمجالسة، كل هذا من فعل الجوارح، فإن ذلك اشتغال بما لا يعني.
إذا نظر الإنسان إلى أمور لا يحل له النظر إليها فهذا اشتغاله بما لا يعني، إما أن يكون ذلك مما يتعلق بالصور الفاتنة، أو بقراءة أمور لا يجوز له أن يقرؤها مما يثير الغرائز، أو مما يحرك الشكوك والشبه المضلة في النفوس.
وهكذا أيضاً ما يتعلق باللسان، وهو أكثر اشتغال الناس بما لا يعني، كالكلام في الغيبة، والنميمة، والوقيعة في أعراض الناس، والسؤال الذي يكون من قبيل الفضول، وفضول الكلام، فلان أين يعمل؟ كم دخله؟ هذا البيت ملك أو إيجار؟ هذه السيارة له أو مستأجرة؟ هل اشتراها هو أو اشتراها أبوه؟ ماذا يستفيد الإنسان من هذه الأسئلة؟! فهي نقص في إسلام الإنسان.
بل إن بعض أهل العلم قال: إن التوسع في الدنيا هو من الاشتغال فيما لا يعني، وإنما يأخذ منها ما يحتاج إليه مما يغنيه عن الناس، فلا يكون محتاجاً إليهم، ولا يحتاج أهلُه ولا ولده إلى الناس، لكن التوسع في جمع حجارة الذهب والفضة، وهو لم يخلق لهذا، فتكون منافسة الناس واشتغالهم وجدهم وتعبهم في جمع هذه الأحجار من الأحمر والأبيض فهذا لم نخلق من أجله، ثم بعد ذلك {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 1 - 3]، فإذا وضع في قبره عرف أن ذلك التهافت، وذلك الاشتغال والتوسع في الدنيا الزائد عن الحاجة أنه من الاشتغال بما لا يعني، وأن ذلك يكون على حساب الاستعداد للآخرة، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعطل دنياه، لا، لكن المقصود ألا تشغله دنياه عن آخرته.
وكذلك من الاشتغال بما لا يعني الوقيعة في أعراض الناس، فلان فيه كذا، وفلان فعل كذا، وفلان ترك كذا، وفلان قال لفلان كذا.
وماذا يعنيك؟ وماذا تنتفع من هذا الكلام؟ وما الذي يجنيه هذا القول لك من نفع في الدنيا أو في الآخرة؟ ولكن الإنسان إذا ثقل عليه العمل يحصل له هذا الاشتغال في الأمور التي لا تنفعه، وإذا مُكر بالعبد كان شغله بغيره، ونسي نفسه وأعرض عنها فلم يصلحها، ولم يقوم عيوبه، وإنما الإنسان طاقة فيصرف هذه الطاقة بالنظر في عيوب الآخرين، وتتبع ما عندهم من زلات وأخطاء وما أشبه ذلك، فيبدأ يشرّح عباد الله -عز وجل-، فلان فعل، وفلان ترك، هذا لا يليق، ينبغي أن يشتغل بنفسه وبعمله وبذنوبه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
[1]- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (4/558)، رقم: (2318)، وأحمد (3/259)، رقم: (1737).