صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ
وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخرها أن الله يقول «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وقوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} مفسر للصراط المستقيم وهو بدل منه عند النحاة ويجوز أن يكون عطف بيان والله أعلم. والذين أنعم الله عليهم المذكرون في سورة النساء حيث قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً * ذلك الفضل من الله وكفى با لله عليماً} وقال الضحاك عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} الاَية. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {صراط الذين أنعمت عليهم} قال هم النبيّون وقال ابن جريج عن ابن عباس: هم المؤمنون، وكذا قال مجاهد وقال وكيع: هم المسلمون وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل والله أعلم
وقوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قرأ الجمهور غير بالجر على النعت، قال الزمخشري: وقرى بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير وذو الحال الضمير في عليهم والعامل أنعمت والمعنى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين وهما طريقة اليهود والنصارى، وقد زعم بعض النحاة أن غير ههنا استثنائية فيكون على هذا منقطعاً لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم وما أوردناه أولى لقول الشاعر
كأنك من جمال بني أقيش يقعقع عند رجليه بشن
أي كأنك جمل من جمال بني أقيش فحذف الموصوف واكتفى بالصفة وهكذا غير المغضوب عليهم أي إلى صراط المغضوب عليم اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، وقد دل سياق الكلام وهو قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} ثم قال تعالى: {غير المغضوب عليهم} ومنهم من زعم أن لا في قوله تعالى {ولا الضالين} زائدة وأن تقدير الكلام عنده غير المغضوب عليهم والضالين واستشهد ببيت معجاج
في بئر لا حور سرى وما شعر
أي في بئرحور، والصحيح ما قدمناه، ولهذا روى أبو القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم وغير الضالين وهذا الإسناد صحيح، وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم وللفرق بين الطريقتين ليتجنب كل واحد فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم ولهذا الغضب لليهود والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب خلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إلى طريقه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحق، ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم {من لعنه الله وغضب عليه} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل} وبهذا جاءت الأحاديث والاَثار وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت سماك بن حرب يقول سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمتي وناساً فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له فقالت يا رسول الله: نأى الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمنّ علي منّ الله عليك، قال «من وافدك ؟» قالت عدي بن حاتم، قال «الذي فر من الله ورسوله» قالت فمنّ علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي ؟ قال: سليه حملاناً فسألته فأمر لها، قال فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال «يا عدي ما أفرك ؟ أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ما أفرك أن يقال الله أكبر فهل شيء أكبر من الله عز وجل ؟» قال فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر وقال: «إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى»، وذكر الحديث ورواه الترمذي من حديث سماك بن حرب، وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه (قلت) وقد رواه حماد بن سلمة عن مَرّيّ بن قَطَريّ عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {غير المغضوب عليهم} قال: هم اليهود {ولاالضالين} قال النصارى هم الضالون وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به، وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها وقال عبد الرزاق: وأخبرنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه وسأله رجل من بني القين فقال يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال المغضوب عليهم وأشار إلى اليهود والضالون هم النصارى، وقد رواه الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق فأرسلوه ولم يذكروا من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمرو فا لله أعلم، وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال اليهود، قلت: الضالين قال: النصارى، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : غير المغضوب عليهم وهم اليهود ولا الضالين هم النصارى، وقال الضحاك وابن جريج عن ابن عباس: غير المغضوب عليهم هم اليهود ولا الضالين النصارى، وكذلك قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وقال ابن أبي حاتم ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافاً وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، الحديث المتقدم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة {بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين} وقال في المائدة {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل} وقال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال لا أستطيعه فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي رضي الله عنه
مسألة : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما،