وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} أي في أكنة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وقالوا قلوبنا غلف} أي لا تفقه: وقال العوفي عن ابن عباس: {وقالوا قلوبنا غلف} هي القلب المطبوع عليها، وقال مجاهد {وقالوا قلوبنا غلف} عليه غشاوة وقال عكرمة: عليها طابع، وقال أبو العالية: أي لا تفقه، وقال السدي يقولون عليه غلاف، وهو الغطاء، وقال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: فلا تعي ولا تفقه، قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف، بضم اللام، وهو جمع غلاف، أي قولبنا أوعية كل علم فلا نحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس وعطاء {بل لعنهم الله بكفرهم} أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير {فقليلاً ما يؤمنون} قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل {وقالوا قلوبنا غلف} هو كقوله {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله غلف، قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} وهذا الذي رجحه ابن جرير، واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري، عن حذيفة قال: «القلوب أربعة» فذكر منها «وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر» وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي، أنبأنا أبي، عن جدي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {قلوبنا غلف} قال: لم تختن، هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير. قول آخر ـ قال الضحاك عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} قال: يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وقال عطية العوفي عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} أي أوعية للعمل، وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها، حكاه ابن جرير، وقالوا: قلوبنا غلف، بضم اللام، نقلها الزمخشري، أي جمع غلاف، أي أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يمنون بعلم التوراة، ولهذا قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون} أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} وقد اختلفوا في معنى قوله: {فقليلاً ما يؤمنون} وقوله: {فلا يؤمنون إلا قليلاً} فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقليل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال: فقليلاً ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط، تريد ما رأيت مثل هذا قط، وقال الكسائي: تقول العرب: من زنى بأرض قلما تنبت، أي لا تنبت شيئاً، حكاه ابن جرير رحمه الله، والله أعلم
وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
يقول تعالى: {ولما جاءهم}، يعني اليهود، {كتاب من عند الله} وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {مصدق لما معهم} يعني من التوراة، وقوله {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قال: فينا والله وفيهم، يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني: {ولما جاءهم كتاب من عند اللهمصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} قالوا: كنا قد علوناهم قهراً دهراً في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبياً سيبعث الاَن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به، يقول الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} ، وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال: يستنصرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك بل يكذبون، وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكر لكم، فينزل الله في ذلك من قولهم: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} الاَية، وقال العوفي عن ابن عباس {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يعني بذلك أهل الكتاب، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه، وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} وقال قتادة {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} وقال مجاهد {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} قال: هم اليهود} )
بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ
قال مجاهد {بئسما اشتروا به أنفسهم} يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه، وقال السدي {بئسما اشتروا به أنفسهم} يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللهعلى محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية لـ {أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} ولا حسد أعظم من هذا، قال ابن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} أي أن الله جعله من غيرهم {فباءوا بغضب على عضب} قال ابن عباس: في الغضب على الغضب، فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى {باءوا} استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب، وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله، قال السدي: أما الغضب الأول، فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني، فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والاَخرة، كما قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:«يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار}
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
يقول تعالى: {وإذا قيل لهم} أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمنوا بما أنزل الله} على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك {ويكفرون بما وراءه} يعني بما بعده {وهو الحق مصدقاً لما معهم} أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {الحق مصدقاً لما معهم} منصوباً على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ثم قال تعالى: {فلم تقتلون أنبياء اللهمن قبل إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والاَراء والتشهي، كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} وقال السدي: في هذه الاَية يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون ـ إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله ـ أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالاَيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والاَيات البينات هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد، وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الاَيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه، وقوله: من بعده، أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}، {وأنتم ظالمون} ، أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وانتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدم تفسير ذلك {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس، وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال «حبك الشيء يعمي ويصم» ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح، عن بقية، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به، وقال السدي: أخذ موسى عليه السلام، العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء، ثم قال لهم موسى، اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه، قال: عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرده بها، وهو على شاطىء نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، وقال سعيد بن جبير {وأشربوا في قلوبهم العجل} قال: لما أحرق العجل، برد ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران، وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد «منه» ممن عبد العجل إلا جن، ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما ههنا، لأن المقصود من هذا السياق: أنه ظهر على شفاههم ووجوههم، والمذكور ههنا: أنهم أشربوا في قلوبهم العجل، يعني في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة
تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذ ذكرت العهد منها أطير لو أن إنساناً يطير
وقوله {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله، ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين، المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان، وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة: من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل من دون الله ؟
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمينَ * وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {قل إن كانت لكم الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين} أي بعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: فتمنوا الموت فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت، لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً»، حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي، حدثنا فرات عن عبد الكريم به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار، حدثنا سرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن، قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم، قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين، قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت{ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} وهذا غريب عن الحسن، ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الاَية، هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقي أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى، ونظير هذه الاَية قوله تعالى في سورة الجمعة {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} فهم عليهم لعائن الله تعالى، لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهوداً أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، لما نكلوا عن ذلك، علم كل أحد إنهم ظالمون، لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه، لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا، علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فلما رأوا ذلك، قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء الله تعالى
أما من فسر الاَية على معنى {إن كنتم صادقين} أي في دعواكم، فتمنوا الاَن الموت، ولم يتعرض هولاء للمباهلة، كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون الناس} الاَية، فهذه الاَية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام، وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة، فقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون، من أن الدار الاَخرة لكم خاصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها، أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة
فهذا الكلام منه أوله حسن، وآخره فيه نظر، وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم، أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيراً وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث «خيركم من طال عمره، وحسن عمله» ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم ؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الاَية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس: فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه، نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وسميت هذه المباهلة تمنياً، لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت، ولهذا قال تعالى: {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء، وعاقبتهم عند الله الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الاَخرة بكل ما أمكنهم، وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم، وهذا من باب عطف الخاص على العام، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {ومن الذي أشركوا ؟} قال: الأعاجم، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي، وقال الحسن البصري: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة، يود أحدهم أي يود أحد اليهود، كما يدل عليه نظم السياق، وقال أبو العالية: يود أحدهم، أي أحد المجوس، وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة، قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: هو كقول الفارسي «ده هزارسال» يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضاً، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة، عن الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال هو قول الأعاجم هزارسال نوروز ومهرجان وقال مجاهد {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر، وقال مجاهد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} أي وما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الاَخرة من الخزي، بما ضيع ما عنده من العلم، وقال عوفي عن ابن عباس {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} قال: هم الذين عادوا جبرائيل، قال أبو العالية وابن عمر: فما ذاك بمغيثه من العذاب، ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاَية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً، {والله بصير بما يعملون} أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله
قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ