سَلْ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
يقول تعالى مخبراً عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به، كيده وعصاه وفلقه البحر وضرب الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الاَيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفراً، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب} كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار} ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها، واطمأنوا إليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها، مما يرضي الله عنهم وسخروا من الذين آمنوا، الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوه ابتغاء وجه الله، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين، ولهذا قال تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يزرق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والاَخرة، كما جاء في الحديث «ابن آدم أنفق أنفق عليك» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً» وقال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} وفي الصحيح «أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الاَخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» وفي الصحيح «يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فابليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له»
كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا}. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، كذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله {كان الناس أمة واحدة} قال: كانوا على الهدى جميعاً {فاختلفوا فبعث الله النبيين} فكان أول من بعث نوحاً. وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباس أولاً. وقال العوفي عن ابن عباس {كان الناس أمة واحدة} يقول: كانوا كفاراً {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً ومعنى، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض
ولهذا قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعدما جاءتهم البينات بغياً بينهم} أي من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض {فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} الاَية، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نحن الاَخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود وبعد غد للنصارى» ثم رواه عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت: النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك، وقال الربيع بن أنس في قوله {فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم، وفي قراءة أبي بن كعب: وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الاَية: المخرج من الشبهات والضلالات والفتن
وقوله {بإذنه} أي بعلمه بهم وبما هداهم له، قاله ابن جرير {والله يهدي من يشاء} أي من خلقه {إلى صراط مستقيم} أي وله الحكمة والحجة البالغة، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وفي الدعاء المأثور: «اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا ابتاعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً»
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ
يقول تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} قبل أن تبتلوا وتخبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم، ولهذا قال {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} وهي الأمراض والأسقام والاَلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمداني والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان {البأساء} الفقر {والضراء} السقم {وزلزلوا} خوفاً من الأعداء زلزالاً شديداً، وامتحنوا امتحاناً عظيماً، كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت، قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا ؟ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون» وقال الله تعالى: {آلم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} الاَيات. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه ؟ قال: نعم. قال فكيف كانت الحرب بينكم ؟ قال سجالاً، يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. وقوله {مثل الذين خلوا من قبلكم} أي سنتهم كما قال تعالى: {فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومضى مثل الأولين} وقوله {وزلزلوا حتى يقول الرسل والذين آمنوا معه متى نصر الله} أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة، قال الله تعالى: {ألا إن نصر الله قريب} كما قال {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً} وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها، ولهذا قال {ألا إن نصر الله قريب} وفي حديث أبي رزين «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه، فينظر إليهم قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب» الحديث
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ
قال مقاتل بن حيان: هذه الاَية في نفقة التطوع. وقال السدي: نسختها الزكاة، وفيه نظر، ومعنى الاَية: يسألونك كيف ينفقون ؟ قاله ابن عباس ومجاهد فبين لهم تعالى ذلك، فقال {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} أي اصرفوها في هذه الوجوه. كما جاء الحديث «أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك» وتلا ميمون بن مهران هذه الاَية، ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلاً ولا مزماراً ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان. ثم قال تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} أي مهما صدر منكم من فعل معروف، فإن الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أوقعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر ان ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد. (قلت) ولهذا ثبت في الصحيح «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات ميتة جاهلية» وقال عليه السلام يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» وقوله {وهو كره لكم} أي شديد عليكم ومشقة وهو كذلك، فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} أي لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم. {وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم، فاستجيبوا له وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، حدثني الحضرمي عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فلما ذهب ينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسه فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال «لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك» فلما قرأ الكتاب استرجع، وقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان وبقي بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} الاَية، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} الاَية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء وعامر بن فهيرة وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب لابن جحش كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه «أن سر حتى تنزل بطن نخلة» فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسار، فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة، أضلا راحلة لهما فتخلفا يطلبانها، سار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وانفلت وقتل عمرو، قتله واقد بن عبد الله، فكانت أولى غنيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رجعوا إلى المدينة بأسيرين وما أصابوا من المال، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين عليه. وقالوا: إن محمداً يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب، فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى، وقتل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى، وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب، وأنزل الله يعير أهل مكة {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} لا يحل وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر من القتل عند الله
وقال العوفي عن ابن عباس {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال: ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام، فقال الله {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} من القتال فيه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب، ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فقال الله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه} إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه، وهكذا روى أبو سعيد البقال عن عكرمة، عن ابن عباس، أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش وقتل عمرو بن الحضرمي، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، وقال: نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} إلى آخر الاَية، وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني رحمه الله، في كتاب السيرة له، إنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين، ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة حليف لهم، ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم ومن بني زهرة بن كلاب سعد بن أبي وقاص ومن بني كعب عدي بن عامر بن ربيعة، حليف لهم، من غير ابن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم حليف لهم، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم، ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء، فلما سار عبد الله بن جحش يومين، فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي في هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر عبد الله بن جحش الكتاب، قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، أن امضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نُجران، أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال فقال من يرد عليه من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان وقالت اليهود: تفاءلوا بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك لا لهم، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل} أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله {أكبر عند الله} من قتل من قتلتم منهم {والفتنة أكبر من القتل} أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم عن استطاعوا} أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا» يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً، قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: يا رسول الله، أنطمع ان تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} فوضع الله من ذلك على أعظم الرجاء، قال ابن إسحاق، والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة، وقد روى يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قريباً من هذا السياق، وروى موسى بن عقبة، عن الزهري نفسه نحو ذلك، وروى شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة بن الزبير نحواً من هذا أيضاً، وفيه فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام ؟ فأنزل لله {يسألونك عن الشهر الحرام} الاَية، وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة، ثم قال ابن هشام، عن زياد، عن ابن إسحاق: وقد ذكر عن بعض آل عبد الله أن عبد الله قسم الفيء بين أهله، فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه، وخمساً على الله ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير، قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون، قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش، ويقال: بل عبد الله بن حجش قالها حين قالت قريش: قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال وأسروا فيه الرجال، قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش
تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غلّ من القيد عائد
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا