وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال الله تعالى: {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. وقال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس. {يلوون ألسنتهم بالكتاب} يحرفونه، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيدون، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول رواه ابن أبي حاتم، فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش، وهو من باب تفسير المعرب المعبر وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه عنده فتلك كما قال: محفوظة لم يدخلها شيء
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِن كُونُواْ رَبّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسْلِمُونَ
قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي: حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أوذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «معاذ اللهأن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» أو كما قال صلى الله عليه وسلم : فأنزل الله في ذلك من قولهما: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله} أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أي مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} الاَية، وفي المسند والترمذي كما سيأتي أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم. قال «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به، وبلغتهم إياه رسله الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام، فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتم القيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله: {ولكن كونوا ربانيين بماكنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربانيين، قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد: أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن وغير واحد: فقهاءو وكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن أنس وعن الحسن أيضاً: يعني أهل عبادة وأهل تقوى، وقال الضحاك في قوله: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}: حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً {تعلمون} أي تفهمون معناه، وقرىء {تعلمون} بالتشديد من التعليم {وبما كنتم تدرسون} تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله: لا نبي مرسل ولا ملك مقرب {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} الاَية، وقال {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال إخباراً عن الملائكة {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}
وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلّىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاءه رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ولهذا قال تعالى وتقدس {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} أي لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة والسدي يعني عهدي وقال محمد بن إسحاق (إصري) أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقي الشديد المؤكد {قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك} أي عن هذا العهد والميثاق {فأولئك هم الفاسقون}، قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقال طاوس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، مثل قول علي وابن عباس، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي يهودي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال، فتغير وجه رسول صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت، قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، بالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين»
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر: حدثنا إسحاق حدثنا حماد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني». وفي بعض الأحاديث «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي» فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب طاعته المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه
أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَالنّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي {له أسلم من في السموات والأرض} أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً، كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} الاَية، وقال تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع، وقد ورد حديث في تفسير هذه الاَية على معنى آخر فيه غرابة، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن النضر العسكري، حدثنا سعيد بن حفص النفيلي، حدثنا محمد بن محصن العكاشي، حدثنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن النبي صلى الله عليه وسلم {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً}، «أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام، وأما كرهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون». وقد ورد في الصحيح «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» وسيأتي له شاهد من وجه آخر، ولكن المعنى الأول للاَية أقوى، وقد قال وكيع في تفسيره، حدثنا سفيان عن منصور، عن مجاهد {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} قال: هو كقوله {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} وقال أيضاً: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} قال: حين أخذ الميثاق، {وإليه يرجعون} أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله ثم قال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا} يعني القرآن، {وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب} أي من الصحف والوحي، {والأسباط} وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الاثني عشر، {وما أوتي موسى وعيسى} يعني بذلك التوراة والإنجيل، {والنبيون من ربهم} وهذا يعم جميع الأنبياء جملة {لا نفرق بين أحد منهم} يعني: بل نؤمن بجميعهم {ونحن له مسلمون} فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله
ثم قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الاَية، أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله، فلن يقبل منه {وهو في الاَخرة من الخاسرين} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تجى الأعمال يوم القيامة، فتجى الصلاة فتقول: يا رب، أنا الصلاة فيقول إنك على خير وتجي الصدقة فتقول: يا رب، أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ثم يجي الصيام فيقول: يا رب، أنا الصيام، فيقول: إنك على خير، ثم تجى الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجى الإسلام فيقول: يا رب، أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطى، قال الله في كتابه {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاَخرة من الخاسرين} تفرد به أحمد، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: عباد بن راشد ثقة، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة
كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوَاْ أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * أُوْلَـَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ الله غَفُورٌ رّحِيمٌ
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا داود بن ابي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة ؟ فنزلت {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ فإن الله غفور رحيم} فأرسل إليه قومه فأسلم، وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان، حدثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ غفور رحيم} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك ـ والله ما علمت ـ لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه، فقوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات} أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية، ولهذا قال تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين}. ثم قال تعالى {أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} أي يلعنهم الله، ويلعنهم خلقه، {خالدين فيها} أي في اللعنة، {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه، تاب عليه
إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الضّآلّونَ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لمن كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفراً، أي استمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات، كما قال تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} الاَية، ولهذا قال ههنا {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي، قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن قوماً أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الاَية: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} وهكذا رواه، وإسناده جيد، ثم قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا. ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام: هل ينفعه ذلك ؟ فقال «لا، إنه لم يقل يوماً من الدهر: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وكذلك لو افتدى بملء الأرض ذهباً ما قبل منه، كما قال تعالى: {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} وقال {لا بيع فيه ولا خلال}، وقال {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} فعطف {ولو افتدى} به على الأول، فدل على أنه غيره، وما ذكرناه أحسن من أن يقال: أن الواو زائدة، والله أعلم، ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهباً، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها، وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به ؟ قال: فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك» وهكذا أخرجه البخاري ومسلم،
طريق أخرى: وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: أي رب خير منزل، فيقول: سل وتمن، فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار، لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: يا رب شر منزل، فيقول له: تفتدى مني بطلاع الأرض ذهباً ؟ فيقول: أي رب نعم، فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار»، ولهذا قال {أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين} أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه
لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ
روى وكيع في تفسيره عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون {لن تنالوا البر} قال: الجنة، وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، سمع أنس بن مالك، يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، «بخ بخ ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، أخرجاه، وفي الصحيحين أن عمر قال يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به ؟ قال: حبس الأصل وسبل الثمرة» وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي عمرو بن حماس، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: قال عبد الله: حضرتني هذه الاَية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا ممما تحبون} فذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية لي رومية ، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، يعني تزوجتها
كُلّ الطّعَامِ كَانَ حِـلاّ لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ إِلاّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىَ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ