وأما قصة محلم بن جثامة، فقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يعقوب: حدثني أبي عن محمد بن إسحاق، حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ـ إلى قوله تعالى ـ خبيراً} تفرد به أحمد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا جرير عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً، فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع: فقال الأقرع يا رسول الله، سر اليوم وغر غداً، فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ماذاق نسائي، فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا غفر الله لك»، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم» ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} الاَية
وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: «إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته، فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل» هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً، وقد روي مطولاً موصولاً، فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حماد بن علي البغدادي، حدثنا جعفر بن سلمة، حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى عليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: «ادعوا لي المقداد، يا مقداد: أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً ؟» قال: فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: «كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل» وقوله: {فعند الله مغانم كثيرة} أي خير مما رغبتم فيه عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا
وقوله: {كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم} أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً، وكما قال تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض} الاَية، وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله: {كذلك كنتم من قبل} تخفون إيمانكم في المشركين، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله: {كذلك كنتم من قبل} تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم، وذكر عن قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير: قوله {كذلك كنتم من قبل} لم تكونوا مؤمنين {فمن الله عليكم} أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وقوله: {فتبينوا} تأكيد لما تقدم، وقوله: {إن الله كان بما تعلمون خبيراً} قال سعيد بن جبير: هذا تهديد ووعيد
لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء، قال لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله {غير أولي الضرر}، حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء، قال: لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} قال النبي صلى الله عليه وسلم ادع فلاناً، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل} وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} قال البخاري أيضاً: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان فخذه على فخذي فثقلت علي خفت أن ترض فخدي، ثم سري عنه، فأنزل الله {غير أولي الضرر} تفرد به البخاري دون مسلم، وقد روي من وجه آخر عند الإمام أحمد عن زيد فقال: حدثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، قال: قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة، قال: فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة، قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئاً قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه، فقال: اكتب يا زيد، فأخذت كتفاً، فقال: اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون} إلى قوله: {أجراً عظيما} فكتبت ذلك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى، فقام حين سمع فضيلة المجاهدين، وقال: يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك ؟ قال زيد: فوالله ما قضى كلامه ـ أو ماهو إلا أن قضى كلامه ـ غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة،فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال: اقرأ فقرأت عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون} فقال النبي صلى الله عليه وسلم {غير أولي الضرر}، قال زيد: فألحقتها،فوالله كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف، ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، به نحوه
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، أنبأنا الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاء عبد الله بن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري، قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه، ثم قال: «اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله»، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجزري، أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} عن بدر والخارجون إلى بدر، انفرد به البخاري دون مسلم، وقد رواه الترمذي من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر، قال عبد الله بن حجش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله، فهل لنا رخصة ؟ فنزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر، {وفضل اللهالمجاهدين على القاعدين أجراً عظيما درجات منه} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، هذا لفظ الترمذي. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا ا لوجه، فقوله: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} كان مطلقاً، فلما نزل بوحي سريع {غير أولي الضرر}، صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد)من العمى والعرج والمرض، عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عباس: {غير أولي الضرر}، وكذا ينبغي أن يكون، كما ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال: نعم حبسهم العذر»، وهكذا رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي، عن حميد، عن أنس به، وعلقه البخاري مجزوماً، ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه»، قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله ؟ قال: «نعم حبسهم العذر» لفظ أبي داود، وفي هذا المعنى قال الشاعر
يا راحلين إلى البيت العتيق لقدسرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاإنا أقمنا على عذر وعن قدرومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله: {وكلاً وعد الله الحسنى} أي الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، بل هو فرض على الكفاية. قال تعالى: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً} ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنان العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً، ولهذا قال: {درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً}
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء الأرض». وقال الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة ؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام}
إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، حدثنا حيوة وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود، قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم، فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، وراه الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري، حدثنا محمد بن شريك المكي، حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الاَية. قال عكرمة: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاَية لا عذر لهم. قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم التقية، فنزلت هذه الاَية {ومن الناس من يقول آمنا بالله} الاَية. قال عكرمة: نزلت هذه الاَية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبّه بن الحجاج والحارث بن زمعة، قال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الاَية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الاَية، حيث يقول تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} أي بترك الهجرة {قالوا فيم كنتم} أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة {قالوا كنا مستضعفين في الأرض} أي لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة} الاَية، وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثني يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله»، وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «افد نفسك وابن أخيك» فقال: يا رسول الله، ألم نصل إلى قبلتك، ونشهد شهادتك، قال «يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم»، ثم تلا عليه هذه الاية {ألم تكن أرض الله واسعة} الاَية، وراه ابن أبي حاتم
وقوله: {إلا المستضعفين} إلى آخر الاَية، هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً}، قال مجاهد وعكرمة والسدي: يعني طريقاً
وقوله تعالى: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}