أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً، أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله، {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به، والنور هو القرآن كما رواه العوفي، وابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقال السدي، الإسلام، والكل صحيح {كمن مثله في الظلمات} أي الجهالات، والأهواء والضلالات المتفرقة، {ليس بخارج منها} أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه، وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل» كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم} وقال تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون} وقال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما)يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير}، والاَيات في هذا كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة {وجعل الظلمات والنور}، وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان، فقيل عمر بن الخطاب، هو الذي كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وقيل عمار بن ياسر، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها ابو جهل عمرو بن هشام لعنه الله، والصحيح أن الاَية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر
وقوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة، قدراً من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
يقول تعالى، وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤوساء ودعاة إلى الكفر، والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة، كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} الاَية، وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} الاَية، قيل معناه: أمرناهم بالطاعة فخالفوا، فدمرناهم، قيل: أمرناهم أمراً قدرياً، كما قال ههنا {ليمكروا فيها} وقوله تعالى: {أكابر مجرميها ليمكروا فيها} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس {أكابر مجرميها ليمكروا فيها} قال: سلطنا شرارهم فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب
وقال مجاهد وقتادة {أكابر مجرميها} عظماؤها، قلت: وهكذا قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} وقال تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح {ومكروا مكراً كباراً} وقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر با لله ونجعل له أنداداً} الاَية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، قال: كل مكر في القرآن فهو عمل، وقوله تعالى: {وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، كما قال تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} وقال {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}. وقوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة، قالوا {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة، كما تأتي إلى الرسل، كقوله جل وعلا {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} الاَية
وقوله {الله أعلم حيث يجعل رسالته} أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمتَ ربك} الاَية، يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {من القريتين} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه: {وإذا رآك الذين كفروا إِن يتخذونك إِلا هزواً، أهذا الذي بعث الله رسولاً} وقال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون} وقال تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين» وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم ؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال: لا ـ الحديث بطوله، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إِن الله اصطفى من ولد إبراهيم إِسماعيل واصطفى من بني إِسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» انفرد بإخراجه مسلم، من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام به نحوه، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه»
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: قال العباس: بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال «من أنا ؟» قالوا أنت رسول الله، فقال «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إِن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً» صدق صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث أيضاً، المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم» رواه الحاكم والبيهقي
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء. وقال أحمد: حدثنا شجاع بن الوليد، قال: ذكر قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك» قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله ؟ قال «تبغض العرب فتبغضني» وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاَية، ذكر عن محمد بن منصور الجواز، حدثنا سفيان عن أبي حسين قال: أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد، فلما نظر إليه راعه فقال: من هذا ؟ قالوا ابن عباس ابن عم رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال «الله أعلم حيث يجعل رسالته»
وقوله تعالى: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد} الاَية، هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاؤوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار وهو الذلة الدائمة، لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين ذليلين حقيرين، وقوله تعالى: {وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة، جزاء وفاقاً، {ولا يظلم ربك أحداً} كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول لله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان بن فلان» والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ