وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة، وهو متوكىء على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه. قال فسألوه عن الروح، فقالوا: يا محمد ما الروح ؟ فما زال متوكئاً على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه، فقال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قال: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به
ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الاَية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متوكىء على عسيب، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليهم شيئاً، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} الاَية، وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الاَية مدنية، وأنه نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالاَية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الاَية {ويسألونك عن الروح} ومما يدل على نزول هذه الاَية بمكة ما قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فنزلت {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، قال: وأنزل الله {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر} الاَية
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى، عن داود عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله {ويسألونك عن الروح} الاَية، فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} قال: فنزلت {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} الاَية، قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} أفعنيتنا أم عنيت قومك، فقال «كلاً قد عنيت» فقالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم» وأنزل الله {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال :
(أحدها) أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {ويسألونك عن الروح} الاَية، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فلم يحر إليهم شيئاً، فأتاه جبريل فقال له: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا ؟ قال: جاءني به جبريل من عند الله، فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدونا، فأنزل الله {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه} وقيل: المراد بالروح ههنا جبريل، وقال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه، وقيل المراد به ههنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {ويسألونك عن الروح} يقول: الروح ملك.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري، حدثنا وهب بن روق بن هبيرة، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لله ملكاً لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل، تسبيحه سبحانك حيث كنت» وهذا حديث غريب بل منكر.
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله. حدثني علي، حدثني عبد الله، حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله: {ويسألونك عن الروح} قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة، وهذا أثر غريب عجيب، والله أعلم
وقال السهيلي: روي عن علي أنه قال: هو ملك له مائة ألف رأس، لكل رأس مائة ألف وجه، في كل وجه مائة ألف فم، في كل فم مائة ألف لسان، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي: وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم، وقيل: طائفة يرون الملائكة ولا تراهم، فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم. وقوله: {قل الروح من أمر ربي} أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى، والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استاثر به تعالى ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى، وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة، أي شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} وقال السهيلي: قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا، لأنهم سألوا على وجه التعنت، وقيل: أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله: {قل الروح من أمر ربي} أي من شرعه، أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك، لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة، وإنما ينال من جهة الشرع، وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر، والله أعلم
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء، كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسماً خاصاً، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطاراً أو خمراً، ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز، وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو، وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه، فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه لا من كل وجه، وهذا معنى حسن، والله أعلم. قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها، وصنفوا في ذلك كتباً، ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً * قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يطرق الناس ريح حمراء، يعني في آخر الزمان من قبل الشام، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية، ثم قرآ ابن مسعود {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} الاَية، ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له، وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس أن هذه الاَية نزلت في نفر من اليهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به، فأنزل الله هذه الاَية، وفي هذا نظر، لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش، واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة، فالله أعلم. وقوله {ولقد صرفنا للناس} الاَية، أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه، ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً أي جحوداً للحق ورداً للصواب
وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَآءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلاً من بني عبد الدار، وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين، اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الاَباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الاَلهة وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاَخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً، فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاَخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والاَخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذلك إلى الله، إن شاء فعل بكم ذلك» فقالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا ذلك، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب، فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لوفعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء. وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له، لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفراً وعناداً له، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أعطيناهم ما سألوا، فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ؟ فقال: «بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة، كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضاً عند قوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالاَيات إلا تخويفاً}. وقال تعالى: {وقالو ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً}
وقوله تعالى {حتى تفجر لنا في الأرض ينبوعاً} الينبوع: العين الجارية، سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم على جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقال تعالى: {ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا} الاَية
وقوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت} أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي أطرافها، فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفاً، أي قطعاً كقوله {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الاَية، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا {أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصاديقين} فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال، أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله عز وجل
وقوله تعالى: {أو يكون لك بيت من زخرف} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هو الذهب، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود: أو يكون لك بيت من ذهب {أو ترقى في السماء} أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك {ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} قال مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله تعالى: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا علي ابن اسحاق ، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زجر عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض علي ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ـ أو نحو ذلك ـ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» ورواه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به، وقال: هذا حديث حسن، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث
وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السّمَآءِ مَلَكاً رّسُولاً
يقول تعالى: {وما منع الناس} أي أكثرهم {أن يؤمنوا} ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلاً، كما قال تعالى: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}، وقال تعالى: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا} الاَية. وقال فرعون وملؤه {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ؟} وكذلك قالت الأمم لرسلهم {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤ نا فأتونا بسلطان مبين} والاَيات في هذا كثيرة، ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا منه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته،ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وقال تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفروان} ولهذا قال ههنا {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين} أي كما أنتم فيها {لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} أي من جنسهم. ولما كنتم أنتم بشراً بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفاً ورحمة
قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
يقول تعالى مرشداً نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به: إنه شاهد علي وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه ياليمين ثم لقطعنا منه الوتين}. وقوله {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} أي عليماً بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة، ولهذا قال
وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً
يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم، كما قال: {من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} وقوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} قال الإمام أحمد، حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل عن نفيع قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم»، وأخرجاه في الصحيحين
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن جميع القرشي حدثنا أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار، فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما، فما بال الذين يمشون ويسعون ؟ قال «يلقي الله عز وجل الاَفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها». وقوله: {عمياً} أي لا يبصرون، {وبكماً} يعني لا ينطقون، {وصماً} لا يسمعون، وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكماً وعمياً وصماً عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه {مأواهم} أي منقلبهم ومصيرهم {جهنم كلما خبت} قال ابن عباس: سكنت، وقال مجاهد طفئت، {زدناهم سعيراً} أي لهباً ووهجاً وجمراً، كما قال: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}
ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىَ الظّالِمُونَ إَلاّ كُفُوراً
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه، لأنهم كذبوا {بآياتنا} أي بأدلتنا وحجتنا، واستبعدوا وقوع البعث {وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتا} أي بالية نخرة {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك، كما قال: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى} الاَية،في هذا المقام اضطرب وقال {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} إلى آخر السورة. وقال ههنا {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم} أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم. وقوله: {وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه} أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود}. وقوله: {فأبى الظالمون} أي بعد قيام الحجة عليهم {إلا كفوراً} إلا تمادياً في باطلهم وضلالهم
قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر، خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً، لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال: {وكان الإنسان قتوراً} قال ابن عباس وقتادة: أي بخيلاً منوعاً، وقال الله تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً} أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه، وقد جاء في الصحيحين «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه»
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَمُوسَىَ مَسْحُوراً * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـَؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، قاله ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا، والخمس في الأعراف والطمسة والحجر، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي، وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة، وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون {فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين} أي ومع هذه الاَيات ومشاهدتهم لها، كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً، وما نجعت فيهم: فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا، وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الاَيات {وإني لأظنك يا موسى مسحوراً} قيل: بمعنى ساحر، والله تعالى أعلم. فهذه الاَيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا، وهي المعنية في قوله تعالى: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف ـ إلى قوله ـ في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوماً فاسقين} فذكر هاتين الاَيتين العصا واليد وبين الاَيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة، منها ضربة الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ههنا التسع الاَيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الاَية {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال: لا تقل له نبي، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين، فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكما أن تتبعاني ؟» قالا: لأن دواد عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الاَيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم، ولهذا قال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً} أي هالكاً، قاله مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس: ملعوناً، وقال أيضاً هو والضحاك {مثبوراً} أي مغلوباً، والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله، قال الشاعر عبد الله بن الزبعري
إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون، كما قال تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} الاَية، فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الاَيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله، وليس المراد منها كما ورد في الحديث، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة، فإن له بعض ما ينكر، والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الرواي بالتسع الاَيات فحصل وهم في ذلك، والله أعلم
وقوله: {فأراد أن يستفزهم من الأرض} أي يخليهم منها ويزيلهم عنها، {فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة، وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} الاَيتين، ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم، كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل، وقال ههنا {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الاَخرة جئنا بكم لفيفا} أي جميعكم أنتم وعدوكم، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: لفيفاً أي جميعاً
وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل، أي متضمناً للحق، كما قال تعالى: {ولكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} أي متضمناً علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه. وقوله {وبالحق نزل} أي ونزل إليك يا محمد محفوظاً محروساً لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه، بل وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى. وقوله: {وما أرسلناك} أي يا محمد {إلا مبشراً ونذيراً} مبشراً لمن أطاعك من المؤمنين ونذيراً لمن عصاك من الكافرين
وقوله: {وقرآناً فرقناه} أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً منجماً على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ: فرقناه بالتشديد، أي أنزلناه آية آية مبيناً ومفسراً، ولهذا قال: {لتقرأه على الناس} أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم، أي {على مكث} أي مهل {ونزلناه تنزيلاً} أي شيئاً بعد شيء
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم {آمنوا به أو لا تؤمنوا} أي سواء آمنتم به أم لا، فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله، ولهذا قال: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه {إذا يتلى عليهم} هذا القرآن {يخرون للأذقان} جمع ذقن وهو أسفل الوجه {سجداً} أي لله عز وجل شكراً على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلاً أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب، ولهذا يقولون {سبحان ربنا} أي تعظيماً وتوقيراً على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قالوا {سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا}. وقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} أي خضوعاً لله عز وجل وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله {ويزيدهم خشوعاً} اي إيماناً وتسليماً، كما قال: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}. وقوله: {ويخرون} عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود، كما قال الشاعر
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَـَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لّهُ وَلِيّ مّنَ الذّلّ وَكَبّرْهُ تَكْبِيراً
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل، المانعين من تسميته بالرحمن {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاًما تدعوا فله الأسماء الحسنى} أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن، فإنه ذو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ـ إلى أن قال ـ له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض} الاَية، وقد روى مكحول أن رجلاً من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: «يا رحمن يا رحيم» فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو اثنين، فأنزل الله هذه الاَية، وكذا روي عن ابن عباس، رواهما ابن جرير
وقوله: {ولا تجهر بصلاتك} الاَية قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الاَية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة، {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {ولا تجهر بصلاتك} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن {ولا تخافت بها} عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك {وابتغ بين ذلك سبيلا} أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به، وكذا رواه الضحاك عن ابن عباس، وزاد: فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك شاء
وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهويصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً، فأنزل الله {ولا تجهر بصلاتك} فيتفرقوا عنك {ولا تخافت بها} فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به، {وابتغ بين ذلك سبيلا} وهكذا قال عكرمة والحسن البصري وقتادة: نزلت هذه الاَية في القراءة في الصلاة، وقال شعبة عن الأشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال عن ابن مسعود لم يخافت بها من أسمع أذنيه
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية عن سلمى بن علقمة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا ؟ قال: أناجي ربي عز وجل وقد علم حاجتي، فقيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا ؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، قيل: أحسنت، فلما نزلت {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} قيل لأبي بكر: ارفع شيئاً، وقيل لعمر: اخفض شيئاً، وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء، وهكذا روى الثوري ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير. وقال الثوري عن ابن عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال: كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارزقنا إبلاً وولداً» قال: فنزلت هذه الاَية {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}
قول آخر: قال ابن جرير: حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: نزلت هذه الاَية في التشهد {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}، وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله
قول آخر: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس. وقال الثوري عن منصور عن الحسن البصري {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن به، وهشيم عن عوف عنه به، وسعيد عن قتادة عنه كذلك
قول آخر: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وابتغ بين ذلك سبيلا} قال: أهل الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به ويصيحون هم به وراءه، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يخافت كما يخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة
وقوله: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائض فقال: {وقل الحمد لله الذي لن يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد {ولم يكن له ولي من الذل} أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها وحده لا شريك له. قال مجاهد في قوله: {ولم يكن ولي من الذل} لم يحالف أحدً ولم يبتغ نصر أحد {وكبره تكبيراً} أى عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً
قال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر عن القرظي أنه كان يقول في هذه الاَية {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} الاَية، قال إن اليهود والنصارى يقولون اتخذ الله ولداً، وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله هذه الاَية {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} وقال أيضاً: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه الاَية {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} الاَية، الصغير من أهله والكبير. قلت وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الاَية آية العز، وفي بعض الاَثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة، والله أعلم
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا بشر بن سيحان البصري، حدثنا حرب بن ميمون، حدثنا موسى بن عبيدة الزبيدي عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويده في يدي، أو يدي في يده، فأتى على رجل رث الهيئة فقال: «أي فلان ما بلغ بك ما أرى ؟» قال: السقم والضر يا رسول الله، قال: «ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟» قال: لا، قال: ما يسرني بها أن شهدت معك بدراً أو أحداً، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع ؟» قال: فقال أبو هريرة: يا رسول الله إياي فعلمني، قال: «فقل يا أبا هريرة توكلت على الحي الذي لا يموت، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيراً» قال: فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي قال: فقال لي «مهيم» قال: قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني»، إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة، والله أعلم.
آخر تفسير سورة سبحان. و لله الحمد والمنة