وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَـَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنّا يُصْحَبُونَ
يقول تعالى مسلياً لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله * ولقد جاءك من نبأ المرسلين} ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام، فقال: {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} أي بدل الرحمن يعني غيره، كما قال الشاعر
جارية لم تلبس المرققا ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق. وقوله تعالى: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون} أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، بل يعرضون عن آياته وآلائه، ثم قال {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ، أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ؟ ليس الأمر كما توهموا، ولا كما زعموا، ولهذا قال: {لا يستطعون نصر أنفسهم} أن هذه الاَلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم. وقوله: {ولا هم منا يصحبون} قال العوفي عن ابن عباس: ولا هم منا يصحبون أي يجارون. وقال قتادة: لا يصبحون من الله بخير. وقال غيره: ولا هم منا يصحبون يمنعون
بَلْ مَتّعْنَا هَـَؤُلآءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنّ يَويْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، ثم قال واعظاً لهم {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} اختلف المفسرون في معناه، وقد أسلفنا في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الاَيات لعلهم يرجعون} وقال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر، والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين، ولهذا قال: {أفهم الغالبون} يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون
وقوله: {قل إنما أنذركم بالوحي} أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه، ولهذا قال: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون} وقوله: {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين} أي ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا. وقوله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة، الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه
وقوله: {فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} كما قال تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وقال لقمان {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شئياً ؟ أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال: لا يارب. قال: أفلك عذر أو حسنة ؟ قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أحضروه، فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، قال: ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث الليث بن سعد، وقال الترمذي: حسن غريب
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار، قال: فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان» وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو نوح مراراً، أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه، فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم، كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ماله لا يقرأ كتاب الله {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئاً خيرٌ من فراق هؤلاء ـ يعني عبيده ـ إني أشهدك أنهم أحرار كلهم
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مّنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَـَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، وبين كتابيهما، ولهذا قال: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} قال مجاهد: يعني الكتاب. وقال أبو صالح
التوراة. وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد يعني النصر: وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نوراً في القلوب وهداية وخوفاً وإنابة وخشية، ولهذا قال: {الفرقان وضياء وذكراً للمتقين} أي تذكيراً لهم وعظة، ثم وصفهم فقال: {الذين يخشون ربهم بالغيب} كقوله: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}. وقوله: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجركبير} {وهم من الساعة مشفقون} أي خائفون وجلون، ثم قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد {أفأنتم له منكرون} أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور ؟
وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـَذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ * قَالَ بَل رّبّكُمْ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الّذِي فطَرَهُنّ وَأَنَاْ عَلَىَ ذَلِكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق، مما بأيدينا عن المعصوم، قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئاً من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفاً، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي من قبل ذلك
وقوله: {وكنا به عالمين} أي وكان أهلا لذلك، ثم قال: {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم هلا عاكفون} هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال، ولهذا قال: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} أي الكلام مع آبائكم الذي احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم، فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم {قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين} يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أم محقاً فيه، فإنا لم نسمع به قبلك {قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} أي ربكم الذي لا إله غيره، وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن، وهو الخالق لجميع الأشياء {وأنا على ذلكم من الشاهدين} أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه
وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ
ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم، أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين، أي إلى عيدهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه، قال السدي: لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض، وقال: إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون: مه، فيقول: إني سقيم، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: {تالله لأكيدن أصنامكم} فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه، فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال: إني سقيم، وقد كان بالأمس، قال: {تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} فسمعه ناس منهم
وقوله: {فجعلهم جذاذاً} أي حطاماً كسرها كلها، إلا كبيراً لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم، كما قال: {فراغ عليهم ضرباً باليمين}. وقوله {لعلهم إليه يرجعون} ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي في صنيعه هذا، {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم: سمعنا فتىً أي شاباً، يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الاَية {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}
وقوله {قالوا فأتوا به على أعين الناس} أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام. التي لا تدفع عن نفسها ضراً، ولا تملك لها نصراً، فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟ {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال بل فعله كبيرهم هذا} يعني الذي تركه لم يكسره {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: {بل فعله كبيرهم هذا}، وقوله: {إني سقيم} ـ قال ـ وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة، إذ نزل منزلاً فأتى الجبار رجل فقال: إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاء، فقال: ما هذه المرأة منك ؟ قال: أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إلي، فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فاخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له، فأرسل فأهوى إليها، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد، ففعل ذلك الثالثة، فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين، فقال: ادعي الله فلا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت، فلما أحس إبراهيم بمجيئها، انفتل من صلاته، وقال: مهيم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر». قال محمد بن سيرين: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء
فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوَاْ إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ * ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـَؤُلآءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ * أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال {فرجعوا إلى أنفسهم} أي بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لاَلهتهم، فقالوا: {إنكم أنتم الظالمون} أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها، {ثم نكسوا على رؤوسهم} أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}. قال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء، فقالوا {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}. وقال السدي {ثم نكسوا على رؤوسهم} أي في الفتنة. وقال ابن زيد: أي في الرأي، وقول قتادة أظهر في المعنى، لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزاً، ولهذا قالوا له {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون، وأنت تعلم انها لا تنطق، فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم} أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر، فلم تعبدونها من دون الله ؟ {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر. فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها، ولهذا قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} الاَية
قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: {حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}، فجمعوا حطباً كثيراً جداً، قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في جوبَة من الأرض وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال شعيب الجبائي، اسمه هيزن: فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل
وروى الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو هشام، حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك» ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت، سبحانك لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك، وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة، فالله أعلم، وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا، وأما من الله فبلى. وقال سعيد بن جبير ـ ويروى عن ابن عباس أيضاً ـ قال: لما ألقي إبراهيم، جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه
وقال الثوري عن الأعمش، عن شيخ، عن علي بن أبي طالب {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} قال: لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: وسلاماً لاَذى إبراهيم بردها، وقال جويبر عن الضحاك: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، قالوا: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله، قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك. وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل
وقال علي بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا مهران، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها. وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار: وجده يرشح جبينه، قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال قتادة: لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ، وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب، حدثني عمي، حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة، فرأيت في بيتها رمحاً، فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفيء النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم» فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. وقوله: {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} أي المغلوبين الأسفلين، لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً، فكادهم الله ونجاه من النار، فغلبوا هنالك، وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة
وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَة وَإِيتَآءَ الزّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ * وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ