إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذّاكِـرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عثمان بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إِلا ونداؤه على المنبر، وأنا أسرح شعري، فلففت شعري ثم خرجت إِلى حجرتي حجرة بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد فإِذا هو يقول عند المنبر «ياأيها الناس إِن الله تعالى يقول: {إِن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}» إِلى آخر الاَية، وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به مثله
طريق أخرى عنها) قال النسائي أيضاً: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا سويد، أخبرنا عبد الله بن شريك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يانبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لايذكرون ؟ فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي معاوية، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يارسول الله يذكر الرجال ولانذكر، فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية
طريق أخرى: قال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة رضي الله عنها: يارسول الله يذكر الرجال ولانذكر، فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية
حديث آخر : قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا سيار بن مظاهر العنزي، حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : ماله يذكر المؤمنين ولايذكر المؤمنات ؟ فأنزل لله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية، وحدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن ولم نذكر بشيء أما فينا مايذكر ؟ فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية، فقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخص منه لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. وفي الصحيحين «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فيسلبه الإيمان ولايلزم من ذلك كفره بإِجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه كما قررناه أولاً في شرح البخاري
وقوله تعالى: {والقانتين والقانتات} القنوت هو الطاعة في سكون {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} وقال تعالى: {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} {يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} {وقوموا لله قانتين} فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إِليها وهو الإيمان، ثم القنوت ناشىء عنهما {والصادقين والصادقات} هذا في الأقوال، فإِن الصدق خصلة محمودة ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرب عليهم كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو علامة على الإيمان،)كما أن الكذب أمارة على النفاق، ومن صدق نجا، «عليكم بالصدق فإِن الصدق يهدي إِلى البر، وإِن البر يهدي إِلى الجنة، وإِياكم والكذب، فإِن الكذب يهدي إِلى الفجور، وإِن الفجور يهدي إِلى النار، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً»
والأحاديث فيه كثيرة جداً، {والصابرين والصابرات} هذه سجية الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة وتلقي ذلك بالصبر عند الصدمة الأولى، أي أصعبه في أول وهلة، ثم مابعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها {والخاشعين والخاشعات} الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته، كما في الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك» {والمتصدقين والمتصدقات} الصدقة هي الإحسان إِلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإِحساناً إِلى خلقه. وقد ثبت في الصحيحين «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله ـ فذكر منهم ـ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه» وفي الحديث الاَخر «والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار». والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً له موضع بذاته {والصائمين والصائمات} وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه «والصوم زكاة البدن» أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً، كما قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى: {والصائمين والصائمات} ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإِنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإِنه له وجاء» ناسب أن يذكر بعده {والحافظين فروجهم والحافظات} أي عن المحارم والمآثم إِلا عن المباح كما قال عز وجل: {والذين هم لفروجهم حافظون إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإِنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}
وقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا محمد بن جابر عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذاأيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كُتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراُ والذاكرات» وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قلت يارسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» قال: قلت يارسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى ؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دماً، لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه»
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الرحمن بن إِبراهيم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فأتى على جمدان فقال «هذا جمدان سيروا فقد سبق المفردون» قالوا: وما المفردون ؟ قال صلى الله عليه وسلم «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين ؟ قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالو، والمقصرين ؟ قال: «والمقصرين» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم دون آخره
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: إِنه بلغني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ماعمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عز وجل» وقال معاذ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟» قالوا: بلى يارسول الله، قال صلى الله عليه وسلم «ذكر الله عز وجل»
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِن رجلاً سأله فقال: أي المجاهدين أعظم أجراً يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أكثرهم لله تعالى ذكراً» قال: فأي الصائمين أكثر أجراً ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أكثرهم لله عز وجل ذكراً» ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة. كل ذلك يقول رسول الله «أكثرهم لله ذكراً» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجل». وسنذكر إِن شاء الله تعالى بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة {ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً} الاَية، إِن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجراً عظيماً وهو الجنة
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الاَية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلى فانكحيه» قالت: يارسول الله أؤامر في نفسي ؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً} الاَية، قالت: قد رضيته لي يارسول الله منكحاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم» قالت: إِذاً لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي
وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسباً، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الاَية كلها، وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فامتنعت ثم أجابت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء، يعني بعد صلح الحديبية، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه ـ بعد فراقه زينب، فسخطت هي وأخوها وقالا: إِنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده، قال: فنزل القرآن {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً} إِلى آخر الاَية، قال: وجاء أمر أجمع من هذا {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} قال: فذاك خاص وهذا أجمع
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إِلى أبيها، فقال: حتى أستأمر أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فنعم إِذاً» قال: فانطلق الرجل إِلى امرأته فذكر ذلك لها، قالت: لاها الله ذا ماوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا جليبيباً وقد منعناها من فلان وفلان، قال: والجارية في سترها تسمع، قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، إِن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، قال: فكأنها جلت عن أبويها، وقالا: صدقت فذهب أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن كنت رضيته فقد رضيناه، قال صلى الله عليه وسلم «فإِني قد رضيته» قال: فزوجها، ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيتها وإِنها لمن أنفق بيت بالمدينة
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ثابت عن كنانة بن نعيم العدوي، عن أبي برزة الأسلمي قال: إِن جليبيباً كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي: لا يدخلن اليوم عليكن جليبيباً فإِنه إِن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن، قالت: وكانت الأنصار إِذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار «زوجني ابنتك» قال: نعم وكرامة يارسول الله ونعمة عين، فقال صلى الله عليه وسلم : «إِني لست أريدها لنفسي» قال: فلمن يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم «لجليبيب» فقال: يارسول الله أشاور أمها، فأتى أمها، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك ؟ فقالت: نعم ونعمة عين، فقال: إِنه ليس يخطبها لنفسه إِنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أجليبيب إنيه أجليبيب إنيه ؟ ألا لعمر الله لا نزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إِليكم ؟ فأخبرتها أمها، قالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ ادفعوني إِليه، فإِنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها فزوجها جليبيباً، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه رضي الله عنهم «هل تفقدون من أحد» ؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً، قال صلى الله عليه وسلم «انظروا هل تفقدون من أحد» قالوا: لا. قال صلى الله عليه وسلم : «لكنني أفقد جليبيباً» قال صلى الله عليه وسلم «فاطلبوه في القتلى» فطلبوه فوجدوه إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يارسول الله هاهوذا إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال «قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه» مرتين أو ثلاثاً، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ماله سرير إِلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وضعه في قبره ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه، قال ثابت رضي الله عنه: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحديث إِسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: قال «اللهم صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشها كداً» وكذا كان، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها، هكذا أورده الإمام أحمد بطوله، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ نزلت هذه الاَية {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}
وقال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: إِنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فهذه الاَية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إِذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: {فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وفي الحديث «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} كقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}
وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وأنعمت عليه} أي بالعتق من الرق، وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر حبيباً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب، ويقال لابنه أسامة الحب بن الحب، قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إِلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه، رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داوود عن عبد الله البهي عنها
وقال البزار: حدثنا خالد بن يوسف، حدثنا أبو عوانة، ح وحدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة، أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: فقالا: ياأسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان، فقال صلى الله عليه وسلم : «أتدري ما حاجتهما ؟» قلت: لا يارسول الله، قال صلى الله عليه وسلم : «لكني أدري» قال: فأذن لهما، قالا: يارسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إِليك ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أحب أهلي إِلي فاطمة بنت محمد» قالا: يارسول الله ما نسألك عن فاطمة، قال صلى الله عليه وسلم «فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما، وخماراً وملحفة ودرعاً، وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر، قاله مقاتل بن حيان، فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «أمسك عليك زوجك واتق الله» قال الله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها
وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} نزلت في زيد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: إن هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} نزلت في شأن زينب بنت حجش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم مرزوق، حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} فذكرت له، فقال: لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إِليه قال: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك
وقال ابن جرير: حدثنا إِسحاق بن شاهين، حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إِليه من كتاب الله تعالى لكتم {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} وقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} الوطر هو الحاجة والأرب، أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى إِليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولامهر ولا شهود من البشر
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم يعني ابن القاسم، أخبرنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرها علي» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إِليها وأقول إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يازينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يارسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به {لا تدخلوا بيوت النبي إِلا أن يؤذن لكم} الاَية كلها، ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به
وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات، وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما، فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إِني لأدلي عليك بثلاث، وما من نسائك امرأة تدلي بهن: إِن جدي وجدك واحد، وإِني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإِن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام
وقوله تعالى: {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إِذا قضوا منهن وطراً} أي إِنما أبحنا لك تزويجها، وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه، فكان يقول له زيد بن محمد، فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ـ إِلى قوله تعالى ـ ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى في آية التحريم {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ليحترز من الابن الدعي، فإِن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى: {وكان أمر الله مفعولاً} أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لامحالة، كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً
يقول تعالى: {ماكان على النبي من حرج فيما فرض الله له} أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً * مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً