لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم {الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم، وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم. قال عمر: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري ههنا أيضاً
قوله تعالى: {يحبون من هاجر إليهم} أي من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال «لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» لم أره في الكتب من هذا الوجه
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. قالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال «إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة» تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة
قال الحسن البصري {ولا يجدون في صدورهم حاجة} يعني الحسد {مما أوتوا} قال قتادة يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الاَن رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال «نعم»
قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات «يطلع عليكم الاَن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ماهو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق، ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، فالله أعلم
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني مما أوتوا المهاجرين، قال وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم» فقالوا أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أو غير ذلك» قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: «هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر» فقالوا: نعم يا رسول الله. وقوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يعني حاجة أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الصدقة جهد المقل» وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه} وقوله {وآتى المال على حبه} فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه، ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أبقيت لأهلك ؟» فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الاَخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان حدثنا أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفيء السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد عجب الله عز وجل ـ أو ضحك ـ من فلان وفلانة» وأنزل الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه
وقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به
وقال الأعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مرة به، وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن الجلاح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً» وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال له عبد الله: وما ذاك ؟ قال: سمعت الله يقول {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً، فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل
وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة»
وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لاَثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى: في هذه الاَية الكريمة {والذين جاءوا من بعدهم يقولون} أي قائلين {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً} أي بغضاً وحسداً {للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الاَية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الاَية {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الاَية. وقال إسماعيل بن علية عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها» رواه البغوي، وقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: هذه لرسول لله صلى الله عليه وسلم خاصة وقرى عربية فدك وكذا مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ وللفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ـ والذين جاؤوا من بعدهم فاستوعبت هذه الاَية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب ـ أو قال حظّ ـ إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا أبو ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب {إنما الصدقات للفقراء والمساكين ـ حتى بلغ ـ عليم حكيم} ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} الاَية. ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ـ حتى بلغ ـ للفقراء ـ والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم ـ والذين جاءوا من بعدهم} ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نّصَرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ * لأنتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرًى مّحَصّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّىَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيَءٌ مّنكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنّهُمَا فِي النّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصركم} قال الله تعالى: {والله يشهد إنهم لكاذبون} أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لأنهم قالوا لهم قولاً، ومن نيتهم أن لا يفوا لهم به، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه، ولهذا قال تعالى: {ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} أي لا يقاتلون معهم {ولئن نصروهم} أي قاتلوا معهم {ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} وهذه بشارة مستقلة بنفسها، كقوله تعالى: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} ولهذا قال تعالى {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} ثم قال تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة
ثم قال تعالى: {بأسهم بينهم شديد} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال تعالى: {ويذيق بعضكم بأس بعض} ولهذا قال تعالى: {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف، قال إبراهيم النخعي: يعني أهل الكتاب والمنافقين {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ثم قال تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم} قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر،وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق، وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا
وقوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم، ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ الكفر، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال {إني أخاف الله رب العالمين}. وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها، فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول إن راهباً تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني إخاف الله رب العالمين}
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الاَية {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} قال: كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت، فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك، فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا: لابل قصها علينا. قال فقصها فقال الاَخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الاَخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، قالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان، فقال إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برضيضا فالله أعلم
وهذه القصة مخالفة لقصة جريج العابد فإن جريجاً اتهمته امرأة بغي بنفسها، وادعت أن حملها منه ورفعت أمرها إلى ولي الأمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم ؟ قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا، فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو صغير جداً، ثم قال يا غلام من أبوك. قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيماً بليغاً وقالوا نعيد صومعتك من ذهب، قال لابل أعيدوها من طين كما كانت. وقوله تعالى: {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} أي فكان عاقبة الاَمر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها {وذلك جزاء الظالمين} أي جزاء كل ظالم
يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ