تفسير سورة الطارق
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد قال عبد الله وسمعته أنا منه، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: «والسماء والطارق» حتى ختمها قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش، نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقاً لاتبعناه، وقال النسائي: حدثنا عمرو بن منصور، حدثنا أبو نعيم عن مسعر عن محارب بن دثار عن جابر قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أفتان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحوها ؟»
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
وَالسّمَآءِ وَالطّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطّارِقُ * النّجْمُ الثّاقِبُ * إِن كُلّ نَفْسٍ لّمّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ * إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ
يقسم تبارك وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة ولهذا قال تعالى: {والسماء الطارق} ثم قال: {وما أدراك ما الطارق} ثم فسره بقوله: {النجم الثاقب} قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقاً لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً أي يأتيهم فجأة بالليل، وفي الحديث الاَخر المشتمل على الدعاء «إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن». وقوله تعالى: {الثاقب} قال ابن عباس: المضيء وقال السدي: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها، وقال عكرمة: هو مضيء ومحرق للشيطان
وقوله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ} أي كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الاَفات كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}. وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق ؟} تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وقوله تعالى: {خلق من ماء دافق} يعني المني يخرج دفقاً من الرجل والمرأة، فيتولد منهما الولد، بإذن الله عز وجل، ولهذا قال: {يخرج من بين الصلب والترائب} يعني صلب الرجل وترائب المرأة وهو صدرها. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس {يخرج من بين الصلب والترائب } صلب الرجل وترائب المرأة أصفر رقيق لا يكون الولد إلا منهما، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن مسعر، سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس {يخرج من بين الصلب والترائب} قال: هذه الترائب، ووضع يده على صدره
وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس: تريبة المرأة موضع القلاده، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الترائب بين ثدييها، وعن مجاهد: الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر، وعنه أيضاً: الترائب أسفل من التراقي، وقال سفيان الثوري: فوق الثديين، وعن سعيد بن جبير: الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل وعن الضحاك: الترائب بين الثديين والرجلين والعينين، وقال الليث بن سعد عن معمر بن أبي حبيبة المدني أنه بلغه في قول الله عز وجل: {يخرج من بين الصلب والترائب} قال: هو عصارة القلب من هناك يكون الولد، وعن قتادة {يخرج من بين الصلب والترائب} من بين صلبه ونحره
وقوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر} فيه قولان (أحدهما) على رجع هذا الماء الدافق، إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما. (والقول الثاني) إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق أي إعادته وبعثه إلى الدار الاَخرة لقادر لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة، وقد ذكر الله عز وجل هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع، وهذا القول قال به الضحاك واختاره ابن جرير ولهذا قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي يوم القيامة تبلى فيه السرائر أي تظهر وتبدو ويبقى السر علانية والمكنون مشهوراً، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال هذه غدرة فلان بن فلان» وقوله تعالى: {فما له} أي الإنسان يوم القيامة {من قوة} أي في نفسه {ولا ناصر} أي من خارج منه أي لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ولا يستطيع له أحد ذلك
وَالسّمَآءِ ذَاتِ الرّجْعِ * وَالأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ * إِنّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ * إِنّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
قال ابن عباس: الرجع المطر، وعنه: هو السحاب فيه المطر، وعنه {والسماء ذات الرجع} تمطر ثم تمطر، وقال قتادة: ترجع رزق العباد كل عام ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم، وقال ابن زيد: ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من ههنا {والأرض ذات الصدع} قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وقوله تعالى: {إنه لقول فصل} قال ابن عباس: حق، وكذا قال قتادة، وقال آخر: حكم عدل {وما هو بالهزل} أي بل هو جد حق، ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله فقال: {إنهم يكيدون كيداً} أي يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن، ثم قال تعالى: {فمهل الكافرين} أي أنظرهم ولا تستعجل لهم {أمهلهم رويداً} أي قليلاً أي وسترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك كما قال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}
آخر تفسير سورة الطارق، ولله الحمد والمنة