2 - وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ قال، يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم متفق عليه، هذا لفظ البخاري .
الشَّرْحُ
قوله: يغزو جيش الكعبة الكعبة المشرفة حماها الله وأنقذها من كل شر .
هذه الكعبة هي بيت الله بناه إبراهيم وابنه إسماعيل، وكانا يرفعان القواعد من البيت ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم هذا البيت أراد أبرهة أن يغزوه من اليمن فغزاه بجيش عظيم في مقدمه فيل عظيم يريد أن يهدم به الكعبة بيت الله فلما قرب من الكعبة ووصل إلى مكان يقال له المغمس حرن الفيل، وأبى أن يتقدم فجعلوا ينهرونه ليتقدم إلى الكعبة فأبى، فإذا صرفوا نحو اليمن هرول وأسرع ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية لما أن ناقته حرنت وأبت أن تمشي فقال الصحابة: خلأت القصواء، خلأت القصواء - يعني حرنت وبركت من غير علة - قال الرسول صلى الله عليه وسلم: والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق النبي عليه الصلاة والسلام يدافع عن بهيمة، لأن الظلم لا ينبغي ولو على البهائم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق - أي عادة بل حبسها حابس الفيل وحابس الفيل: هو الرب سبحانه وتعالى: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم عليها .
المهم أن الكعبة غزيت من قبل اليمن في جيش عظيم يقوده هذا الفيل العظيم ليهدم الكعبة فلما وصلوا إلى المغمس أبى الفيل أن يمشي وحرن فانتهروه ولكن لا فائدة فبقوا هناك وانحبسوا فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، والأبابيل: الجماعات الكثيرة من الطيور وكل طير يحمل حجراً قد أمسكه برجله ثم يرسله على الواحد منهم حتى يضربه مع هامته حتى يخرج إلى دبره: { فجعلهم كعصف مأكول } كأنهم زرع أكلته البهائم، واندكوا في الأرض، وفي هذا يقول أمية بن الصلت:
حبس الفيل بالمغمس حتى ...
صار يحبوا كأنه معقور
فحمى الله عز وجل بيته من كيد هذا الملك الظالم الذي جاء لكي يهدم بيت الله وقد قال الله عز وجل: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } في آخر الزمان يغزو قوم الكعبة، جيش عظيم .
وقوله: حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض أي: بأرض واسعة، خسف الله بأولهم وآخرهم .
خسفت بهم الأرض وساخوا فيها هم وأسواقهم وكل من معهم .
وفي هذا دليل على أنهم جيش عظيم لأن معهم أسواقهم للبيع والشراء وغير ذلك .
فيخسف الله بأولهم وآخرهم .
لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا ورد على خاطر عائشة رضي الله عنها سؤال: كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ أسواقهم الذين جاءوا للبيع والشراء ليس لهم قصد سيئ في غزو الكعبة وفيهم أناس ليسوا منهم تبعوهم من غير أن يعلموا بخطتهم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يخسف بأولهم وآخرهم وأسواقهم ومن ليس منهم ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم كل له ما نوى .
هذا فرد من أفراد قول الرسول عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وفي هذا الحديث عبرة: أن من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان فإنه يكون معهم في العقوبة الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم ولا تترك أحداً ثم يوم القيامة يبعثون على نياتهم .
يقول الله عز وجل: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } والشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ثم يبعثون على نياتهم فهو كقوله: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
3 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا متفق عليه .
ومعناه: لا هجرة من مكة لأنها صارت دار إسلام .
الشَّرْحُ
في هذا الحديث نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة بعد الفتح فقال: لا هجرة وهذا النفي ليس على عمومه، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح فإنه لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المراد بالنفي هنا نفي الهجرة من مكة كما قال المؤلف - رحمه الله - لأن مكة بعد الفتح صارت بلاد إسلام ولن تعود بعد ذلك بلاد كفر ولذلك نفى النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون هجرة بعد الفتح .
وكانت مكة تحت سيطرة المشركين وأخرجوا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهاجر بإذن ربه إلى المدينة وبعد ثمان سنوات رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً مظفراً منصوراً صلوات الله وسلامه عليه .
فصارت البلد بدل كونها بلد كفر صارت بلد إيمان وبلد إسلام ولم يكن منها هجرة بعد ذلك .
وفي هذا: دليل على أن مكة لن تعود لتكون بلاد كفر بل ستبقى بلاد إسلام إلى أن تقوم الساعة أو إلى أن يشاء الله .
ثم قال: ولكن جهاد ونية أي الأمر بعد هذا جهاد، أي يخرج أهل مكة من مكة إلى الجهاد .
والنية: أي النية الصالحة للجهاد في سبيل الله وذلك بأن ينوي الإنسان بجهاده، أن تكون كلمة الله هي العليا .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: وإذا استنفرتم فانفروا يعني: إذا استنفركم ولي أمركم للجهاد في سبيل الله فانفروا وجوباً، وحينئذ يكون الجهاد فرض عين .
فلا يتخلف أحد إلا من عذره الله، لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرض عين .
والموضع الثاني: إذا حصر بلدة العدو، أي جاء العدو حتى وصل إلى البلد وحصر البلد صار الجهاد فرض عين ووجب على كل أحد أن يقاتل حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال لأن هذا قتال دفاع .
وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب .
فيجب في هذه الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم .
الحالة الثالثة: إذا حضر الصف والتقى الصفان، صف الكفار وصف المسلمين صار الجهاد حينئذ فرض عين ولا يجوز لأحد أن ينصرف كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات .
الموضع الرابع: إذا احتيج إلى الإنسان بأن يكون السلاح لا يعرفه إلا فرد من الأفراد وكان الناس يحتاجون إلى هذا الرجل لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلاً فإنه يتعين عليه أن يجاهد وإن لم يستنفره الإمام وذلك لأنه محتاج إليه .
ففي هذه المواطن الأربعة، يكون الجهاد فرض عين .
وما سوى ذلك فإنه يكون فرض كفاية .
قال أهل العلم: ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة يجاهد أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم لكن المسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلاً، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام .
ولهذا يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم يجب علينا أن نذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية، ويقال: إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج إلى حماية ودفاع، فلابد أن ندافع عنه بهذه النية .
أما الدفاع بنية الوطنية أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله انتبه إلى هذا القيد .
إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ممثلة في بلدك لأن بلدك بلد الإسلام ففي هذه الحال ربما يكون القتال قتالاً في سبيل الله .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مكلوم يكلم في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - أي يجرح - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله .
فيجب على طلبة العلم أن يبينوا هذا والله الموفق .
4 - وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض وفي رواية إلا شركوكم في الأجر رواه مسلم .
ورواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا، حبسهم العذر .
الشَّرْحُ