باب الاستقامة
قال الله تعالى { فاستقم كما أمرت } وقال تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم } وقال تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون }
الشَّرْحُ
الاستقامة هي أن يثبت الإنسان على شريعة الله سبحانه وتعالى كما أمر الله ويتقدمها الإخلاص لله عز وجل ثم ذكر المؤلف عدة آيات في هذا فذكر قول الله تعالى استقم كما أمرت الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم والخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم يكون له ولأمته إلا إذا قام دليل على أنه خاص به فإنه يختص به أما إذا لم يكن الدليل خاصا به فإنه له وللأمة فمما دل الدليل على أنه خاص به قوله تعالى { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك } فإن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومثل قوله { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } هذا أيضا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم وإذا لم يقم الدليل على أن الخطاب للخصوصية فهو له ولأمته وعلى هذه القاعدة يكون قوله { استقم كما أمرت } عاما له ولأمته كل واحد يجب عليه أن يستقيم كما أمر فلا يبدل في دين الله ولا يزيد فيه ولا ينقص ولهذا قال في آية آخرى { واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم } وقال تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } { ربنا الله } خالقنا ومالكنا ومدبر أمورنا فنحن نخلص له { ثم استقاموا } على ذلك أي: على قولهم: ربنا الله فقاموا بشريعة الله هؤلاء الذين اتصفوا بهذين الوصفين { تتنزل عليهم الملائكة } ملكا بعد ملك { ألا تخافوا ولا تحزنوا } يعني أن الملائكة تتنزل عليهم بأمر الله في كل موطن مخوف ولاسيما عند الموت يقولون لهم { ألا تخافوا ولا تحزنوا } لا تخافوا فيما تستقبلون من أموركم ولا تحزنوا على ما مضى من أموركم { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } والبشرى هي الإخبار بما يسر ولا شك أن الإنسان يسره أن يكون من أهل الجنة أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } لأن كل من قال: ربي الله استقام على دين الله فإنه من أهل الجنة يقولون لهم أيضا { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فالملائكة أولياء اللذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في الحياة الدنيا تسددهم وتساعدهم وتعينهم وكذلك في الآخرة تتلقاهم الملائكة يوم البعث والحساب { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } فيبشرنهم بالخير في مقام الخوف والشدة قال الله عز وجل { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } لكم فيها أي في الآخرة ما تشتهي أنفسكم وذلك في نعيم الجنة لأن الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين { ولكم فيها ما تدعون } أي: تطلبون بل لهم فوق ذلك { لهم فيها ما يشاءون ولدينا مزيد } لهم زيادة على ما يدعونه ويطلبونه ويتمنونه { نزلا من غفور رحيم } يعني أن الجنة نزل لهم وضيافة من غفور رحيم { غفور } غفر لهم سيئاتهم رحيم بهم رفع لهم درجاتهم هذا جزاء الذين يقولون ربنا الله ثم يستقيمون وفي هذا دليل على أهمية الاستقامة على دين الله بأن يكون الإنسان ثابتا لا يزيد ولا ينقص ولا يبدل ولا يغير فأما من غلا في دين الله أو جفا عنه أو بدل فإنه لم يكن مستقيما على شريعة الله عز وجل والاستقامة لابد لها من الاعتدال في كل شيء حتى يكون الإنسان مستقيما
85 - وعن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال: قل: آمنت بالله ثم استقم رواه مسلم
الشَّرْحُ
قوله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك أي: قل لي قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك فيكون فصلا وحاسما ولا يحتاج إلى سؤال أحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قل آمنت بالله ثم استقم فقوله قل آمنت ليس المراد بذلك مجرد القول باللسان فإن من الناس من يقول آمنت بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضا أي: أن يقوله بلسانه بعد أن يقر ذلك في قلبه ويعتقده اعتقادا جازما لا شك فيه لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب ولا الإيمان باللسان لابد من الإيمان بهما جميعا ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول وهو يدعو الناس إلى الإسلام يقول يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا فقال: قولوا: أي بألسنتكم كما أنه لابد من القول بالقلب وقوله آمنت بالله يشمل الإيمان بوجود الله عز وجل وبربويته وبأسمائه وصفاته وبأحكامه وبأخباره وكل ما يأتى من قبله عز وجل تؤمن به فإذا آمنت بذلك فاستقم على دين الله ولا تحد عنه لا يمينا ولا شمالا لا تقصر ولا تزد فاستقم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وذلك بالإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسوله استقم على الصلاة وعلى الزكاة والصيام والحج وعلى جميع الشرائع وقوله قل آمنت بالله ثم دليل على أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان وأن من شرط الأعمال الصالحة أي: من شرط صحتها وقبولها أن تكون مبينة على الإيمان فلو أن الإنسان عمل بظاهره على ما ينبغي ولكن باطنه خراب وفي شك واضطراب أو في إنكار وتكذيب فإن ذلك لا ينفعه ولهذا اتفق العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة العبادة وقبولها أن يكون الإنسان مؤمنا بالله أي: معترفا به وبجميع ما جاء من قبله تبارك وتعالى ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا قام بعمل أن يشعر أنه قام به لله وأنه يقوم به بالله وأنه يقوم به في الله لأنه لا يستقم على دين الله إلا بعد الإيمان بالله عز وجل فيشعر أنه يقوم به لله أي: مخلصا وبالله مستعينا وفي الله متبعا لشرعه وهذه مستفادة من قوله تبارك وتعالى إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم فالأول قيام لله والثاني قيام فيه أي: في شرعه ولهذا نقول: إن المراد بالصراط المستقيم في الآية الكريمة هو شرع الله عز وجل الموصل إليه والله الموفق
86 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاربوا وسددوا واعملوا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل رواه مسلم والمقاربة: القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير والسداد الاستقامة والإصابة ويتغمدني يلبسني ويسترني قال العلماء: معنى الاستقامة: لزوم طاعة الله تعالى وهي من جوامع الكلم وهي نظام الأمور وبالله التوفيق
الشَّرْحُ
هذا الحديث يدل على أن الاستقامة على حسب الاستطاعة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم قاربوا وسددوا أي قاربوا ما أمرتم به واحرصوا على أن تقربوا منه بقدر المستطاع وقوله سددوا أي سددوا على الإصابة أي: احرصوا على أن تكون أعمالكم مصيبة للحق بقدر المستطاع وذلك أن الإنسان مهما بلغ من التقوى فإنه لابد أن يخطئ كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وقال عليه الصلاة والسلام لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم فالإنسان مأمور أن يقارب ويسدد بقدر ما يستطيع ثم قال: واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله أي: لن ينجو من النار بعمله وذلك لأن العمل لا يبلغ ما يجب لله عز وجل من الشكر وما يجب على عباده من الحقوق ولكن يتغمد سبحانه وتعالى العبد برحمته فيغفر له فلما قال الرسول هذا قالوا له ولا أنت ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه فدل ذلك على أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة والولاية فإنه لن ينجو بعمله حتى النبي عليه الصلاة والسلام لولا أن الله من عليه بأن غفر له دنبه ما تقدم منه وما تأخر ما أنجاه عمله فإنه قال قائل: هناك نصوص من الكتاب والسنة تدل على أن العمل الصالح ينجي من النار ويدخل الجنة مثل قوله من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فكيف يجمع بين هذا وبين الحديث الذي مر ؟ والجواب عن ذلك أن يقال: يجمع بينهما بأن المنفي دخول الإنسان الجنة بالعمل في المقابلة أما المثبت فهو أن العمل سبب وليس عوضا فالعمل لا شك أنه سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لكن ليس هو العوض وليس وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة ولكن فضل الله ورحمته هما السبب في دخول الجنة والنجاة من النار وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الإنسان لا يعجب بعمله مهما كان عملك قليل بالنسبة لحق الله عليك وفيه: أنه ينبغي على الإنسان أن يكثر من ذكر الله دائما ومن السؤال بأن يتغمده الله برحمته قل دائما اللهم تغمدني برحمة منك وفضل لأن عملك في مرضاة الله لا يكون إلا برحمة الله عز وجل وفيه: دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم ولهذا استفصلوا هل هذا العموم شامل له أم لا ؟ فبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه شامل له ومن تدبر أحوال الصحابة وجد أنهم أحرص الناس على العلم وأنهم لا يتركون شيئا يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم إلا ابتدروه والله الموفق
باب في التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس وتهذيبها وحملها على الاستقامة