باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور
قال الله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } وقال تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } أي الكتاب والسنة وقال تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } وقال تعالى { قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } والآيات في الباب كثيرة معلومة
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور والبدع هي الأشياء التي يبتدعها الإنسان وهذا هو معناها في اللغة العربية ومنه قوله تعالى بديع السماوات والأرض أي خالقها على غير مثال سبق يعني لم يسبق لهما نظير بل ابتدعهما أو أنشأهما أولا .
والبدعة في الشرع كل ما تعبد لله سبحانه وتعالى بغير ما شرع عقيدة أو قولا أو فعلا فمن تعبد لله بغير ما شرعه الله من عقيدة أو قول أو فعل فهو مبتدع فإذا أحدث الإنسان عقيدة في أسماء الله وصفاته مثلا فهو مبتدع أو قال قولا لم يشرعه الله ورسوله فهو مبتدع أو فعل فعلا لم يشرعه الله ورسوله فهو مبتدع وليعلم أن الإنسان المبتدع يقع في محاذير كثيرة أولا أن ما ابتدعه فهو ضلالة بنص القرآن والسنة وذلك أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق وقد قال الله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } هذا دليل القرآن ودليل السنة قوله صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة ومعلوم أن المؤمن لا يختار أن يتبع طريق الضالين الذين يتبرأ منهم المصلي في كل صلاة { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ثانيا أن في البدعة خروجا عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فمن ابتدع بدعة يتعبد لله بها فقد خرج عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها فيكون خارجا عن شرعة الله فيما ابتدعه ثالثا أن هذه البدعة التي ابتدعها تنافي تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله لأن من حقق شهادة أن محمدا رسول الله فإنه لم يخرج عن التعبد بما جاء به بل يلتزم شريعته ولا يتجاوزها ولا يقصر عنها فمن قصر في الشريعة أو زاد فيها فقد قصر في اتباعه إما بنقص أو بزيادة فحينئذ لا يحقق شهادة أن محمدا رسول الله رابعا أن مضمون البدعة الطعن في الإسلام فإن الذي يبتدع تتضمن بدعته أن الإسلام لم يكمل وأنه كمل الإسلام بهذه البدعة وقد قال الله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ } فيقال لهذا المبتدع أنت الآن أتيت بشريعة غير التي كمل عليها الإسلام وهذا يتضمن الطعن في الإسلام وإن لم يكن الطعن فيه باللسان لكن الطعن فيه هنا بالفعل أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أين الصحابة عن هذه العبادة التي ابتدعها أهم في جهل منها أم في تقصير عنها إذن فهذا يكون طعنا في الشريعة الإسلامية خامسا أنه يتضمن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأن هذه البدعة التي زعمت أنها عبادة إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بها وحينئذ يكون جاهلا وإما أن يكون قد علم بها ولكنه كتمها وحينئذ يكون كاتما للرسالة أو لبعضها وهذا خطير جدا سادسا أن البدعة تتضمن تفريق الأمة الإسلامية لأن الأمة الإسلامية إذا فتح الباب لها في البدع صار هذا يبتدع شيئا وهذا يبتدع شيئا وهذا يبتدع شيئا كما هو الواقع الآن فتكون الأمة الإسلامية كل حزب منها بما لديه فرح كما قال تعالى { كل حزب بما لديهم فرحون } كل حزب يقول الحق معي والضلال مع الآخر وقد قال الله لنبيه { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فإذا صار الناس يبتدعون البدع تفرقوا وصار كل واحد يقول الحق معي وفلان ضال مقصر ويرميه بالكذب والبهتان وسوء القصد وما أشبه ذلك ونضرب لهذا مثلا بأولئك الذين ابتدعوا عيد ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام وصاروا يحتفلون بما يدعون أنه اليوم الذي ولد فيه وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول أتدرون ماذا يقولون لمن لا يفعل هذه البدعة يقولون هؤلاء يبغضون الرسول ويكرهونه ولهذا لم يفرحوا بمولده ولم يقيموا له احتفالا وما أشبه ذلك فتجدهم يرمون أهل الحق بما هم أحق به منهم والحقيقة أن المبتدع بدعته تتضمن أنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يدعي أنه يحبه لأنه إذا ابتدع هذه البدعة والرسول عليه الصلاة والسلام لم يشرعها للأمة فهو كما قلت سابقا إما جاهل وإما كاتم سابعا أن البدعة إذا انتشرت في الأمة اضمحلت السنة لأن الناس يعملون فإما بخير وإما بشر ولهذا قال بعض السلف ما ابتدع قوم بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها يعني أو أشد فالبدع تؤدي إلى نسيان السنن واضمحلالها بين الأمة الإسلامية وقد يبتدع بعض الناس بدعة بنية حسنة لكن يكون أحسن في قصده وأساء في فعله ولا مانع أن يكون القصد حسنا والفعل سيئا ولكن يجب على من علم أن فعله سيئ أن يرجع عن فعله وأن يتبع السنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الفاسد أيضا أن المبتدع لا يحكم الكتاب والسنة لأنه يرجع إلى هواه فيحكمه وقد قال الله تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ } { إلى الله } أي كتابه عز وجل { والرسول } أي إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه
169 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق عليه
الشَّرْحُ
أما حديث عائشة هذا فهو نصف العلم لأن الأعمال إما ظاهرة وإما باطنة فالأعمال الباطنة ميزاتها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى وميزان الأعمال الظاهرة حديث عائشة هذا من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد أي مردود على صاحبه غير مقبول منه وقول أمرنا المراد به ديننا وشرعنا قال الله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا فأمر الله المراد به في هذا الحديث شرع الله من أحدث فيه ما ليس منه فهو رد في هذا دليل واضح على أن العبادة إذا لم نعلم أنها من دين الله فهي مردودة ويستفاد من هذا أنه لابد من العلم لأن العبادة مشتملة على الشروط والأركان أو غلبة الظن إذا كان يكفي عن العلم كما في بعض الأشياء مثلا الصلاة إذا شككت في عددها وغلب على ظنك عدد فابن على ما غلب على ظنك الطواف بالبيت سبعة أشواط وإذا غلب على ظنك عدد فابن على ما غلب على ظنك كذلك الطهارة إذا غلب على ظنك أنك أسبغت الوضوء كفى فالمهم أنه لابد من العلم أو الظن إذا دلت النصوص على كفايته وإلا فالعبادة مردودة وإذا كانت العبادة مردودة فإنه يحرم على الإنسان أن يتعبد لله بها لأنه إذا تعبد لله عبادة لا يرضاها ولم يشرعها لعباده صار كالمستهزئ بالله والعياذ بالله حتى إن بعض العلماء قال: إن الإنسان إذا صلى محدثا متعمدا خرج من الإسلام لأنه مستهزئ بخلاف الناسي فإنه لا إثم عليه ويعيد وفي اللفظ الثاني من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وهو أشد من الأول لأن قوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا يعني لابد أن نعلم بأن كل عمل عملناه عليه أمر الله ورسوله وإلا فهو مردود وهو يشمل العبادات ويشمل المعاملات ولهذا لو باع الإنسان بيعا فاسدا أو رهن رهنا فاسدا أو أوقف وقفا فاسدا فكله غير صحيح ومردود على صاحبه ولا ينفذ
170 - وعن جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي رواه مسلم
الشَّرْحُ
نقل المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في باب التحذير من البدع قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يعني يوم الجمعة احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه وإنما كان يفعل هذا لأنه أقوى في التأثير على السامع فكان صلى الله عليه وسلم يكون على هذه الحال للمصلحة وإلا فإنه من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقا وألينهم عريكة لكن لكل مقام مقال فالخطبة ينبغي أن تحرك القلوب وتؤثر في النفوس وذلك في موضوعها وفي كيفية أدائها وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين السبابة والوسطى يعني بين الإصبعين السبابة وهي التي بين الوسطى والإبهام والوسطى وأنت إذا قرنت بينهما وجدتهما متجاورتين ووجدت أنه ليس بينهما إلا فرق يسير ليس بين الوسطى والسبابة إلا شيء يسير مقدار الظفر أو نصف الظفر والمعنى أن أجل الدنيا قريب وأنه ليس ببعيد وهذا كما فعل صلى الله عليه وسلم ذات يوم حيث خطب الناس في آخر النهار والشمس على رؤوس النخل فقال إنه لم يبق من دنياكم إلا مثل ما بقى من هذا اليوم فإذا كان الأمر كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم الآن مات له ألف وأربعمائة سنة ولم تقم القيامة دل هذا على أن الدنيا طويلة الأمد ولكن ما يقدره بعض الجيولوجين من عمر الدنيا الماضي بملايين فهذا خرص لا يصدق ولا يكذب فهو كأخبار بني إسرائيل لأنه ليس لدينا علم من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في مقدار ما مضى من الدنيا ولا في مقدار ما بقى منها على وجه التحديد وإنما هو كما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمثال والشيء الذي ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة وهو من أخبار ما مضي فإنه ليس مقبولا وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام القسم الأول ما شهد الشرع بصدقة فهذا يقبل لشهادة الشرع به والثاني ما شهد الشرع بكذبه فهذا يرد لشهادة الشرع بكذبه والثالث ما ليس فيه هذا ولا هذا فهذا يتوقف فيه إما أن يكون حقا وإما أن يكون باطلا ويدل لهذا قوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ فإذا حصر العلم جل وعلا في نفسه فإنه لا يتلقى علم هؤلاء إلا من وحيه عز وجل لا يعلمهم إلا الله فأي أحد يدعي شيئا فيما مضى مما يتعلق بالبشرية أو بطبيعة الأرض أو الأفلاك أو غيرها فإننا لا نصدقه ولا نكذبه بل نقسم ما أخبر به إلى الأقسام الثلاثة السابقة أما المستقبل فالمستقبل ينقسم أيضا إلى: أولا ما أخبر الشرع بوقوعه فهذا لابد أن يقع مثل أخبار يأجوج ومأجوج وأخبار الدجال ونزول عيسى ابن مريم وأشباه ذلك ما ثبت في الكتاب والسنة والثاني ما لم يرد به كتاب ولا سنة فهذا القول فيه من التخمين والظن بل لا يجوز أن يصدقه فيما يستقبل لأنه من علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل فالحاصل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال بعثت أنا والساعة كهاتين وقارب السبابة والوسطى والسبابة هي الإصبع الذي بين الإبهام والوسطى وتسمى السبابة لأن الإنسان إذا أراد أن يسب أحدا أشار إليه بها وتسمى السبابة أيضا لأن الإنسان عند الإشارة إلى تعظيم الله عز وجل يرفعها ويشير بها إلى السماء ثم يقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وقد سبق الكلام على هذه الجمل ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه كما قال ربه عز وجل { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فهو أولى بك من نفسك وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم عليه الصلاة والسلام ثم يقول من ترك مالا فلأهله يعني من ترك من الأموات مالا فلأهله يرثونه حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ومن ترك دينا أو ضياعا يعني أولادا صغارا يضيعون فإلي وعلي يعني فأمرهم إلي وأنا وليهم والدين علي أنا أقضيه هكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما فتح الله عليه أما قبل ذلك فكان يؤتى بالرجل ليصلي عليه فيسأل هل عليه دين إن قالوا نعم وليس له وفاء ترك الصلاة عليه فجيء إليه في يوم من الأيام برجل من الأنصار فتقدم ليصلي عليه ثم سأل عليه دين قالوا نعم ثلاثة دنانير فتأخر وقال صلوا على صاحبكم فعرف ذلك في وجوه القوم ثم قام أبو قتادة رضي الله عنه وقال صل عليه يا رسول الله وعلي دينه فالتزمهم أبو قتادة رضي الله عنه فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وفي هذا دليل على عظم الدين وأنه لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك ولا يستدين لا لزواج ولا لبناء بيت ولا لكماليات في البيت كل هذا من السفه يقول الله عز وجل { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ } هذا النكاح فما بالك بما هو دونه بكثير وكثير من الجهال يستدين ليشترى مثلا فراش للدرج أو فراش للساحة أو باب للجراج ينفتح بالكهرباء أو ما أشبه ذلك مع أنه فقير ويأخذه بالدين فهو إن اشترى شيئا بثمن مؤجل فهو دين لأن الدين عند العلماء كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع أو فرض أو أجرة أو غير ذلك فإياكم والديون احذروها فإنها تهلككم إلا شيء ضروري فهذا شيء آخر لكن ما دمت في غنى لا تستدن وكثير من الناس يستدين مثلا أربعين ألفا فإذا حل الأجل قال ليس عندي شيء فيستدين للأربعين ألفا التي عليه ستين ألفا ثم يستدين السنة التالية ثم تتراكم عليه الديوان الكثيرة من حيث لا يشعر
باب فيمن سن سنة حسنة أو سيئة
قال الله تعالى { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } وقال تعالى { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }
الشَّرْحُ
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب للتحذير من البدع وليبين أن من الأشياء ما يكون أصله ثابتا فإذا فعله الإنسان وكان أول من يفعله كان كمن سنه وصار له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة وقد سبق لنا أن الدين الإسلامي ولله الحمد كامل لا يحتاج إلى تكميل ولا إلى بدع لأن الله تعالى قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ثم استشهد المؤلف بآيتين من كتاب الله أولاهما قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } هذا من جملة ما يدعو به عباد الرحمن الذين ذكر الله أوصافهم في آخر سورة الفرقان { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } إلى أن قال { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } { هب لنا } يعني أعطنا والأزواج جمع زوج وهو صالح للذكر والأنثى فالزوجة تسمى زوجا والزوج الذكر يسمى زوجا ولهذا تجدون في الأحاديث ويمر بكم وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهذه هي اللغة الفصحى أن المرأة تسمى زوجا لكن أهل الفرائض رحمهم الله جعلوا للرجل زوج وللمرأة زوجة من أجل التفريق عند قسمة المواريث أما في اللغة العربية فالزوج صالح للذكر والأنثى .
فهذا الدعاء { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } كما هو صالح للرجال صالح للنساء أيضا و { قرة أعين } في المرأة أنك إذا نظرت إليها سرتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وفي ولدك وإذا بحثت عنها وجدتها قانتة لله { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ } فهذه تسر زوجها وكذلك أيضا الذرية إذا جعلهم الله تعالى قرة عين للإنسان يطيعونه إذا أمر وينتهون عما نهاهم عنه ويسرونه في كل مناسبة ويصلحون فهذا من قرة الأعين للمتقين والجملة الأخيرة { واجعلنا للمتقين إماما } هي الشاهد لهذا الباب يعني اجعلنا للمتقين أئمة يقتدي بنا المتقون في أفعالنا وأقوالنا فيما نفعل وفيما نترك فإن المؤمن ولا سيما أهل العلم يقتدى بهم بأقوالهم وأفعالهم ولهذا تجد العامة إذا أمرتهم بشيء أو نهيتهم عن شيء قالوا هذا فلان يفعل كذا وكذا ممن جعلوه إماما لهم والأئمة تشمل الأئمة في الدين الذي هو العبادة الخاصة بالإنسان والأئمة في الدعوة وفي التعليم وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شعائر الدين وشرائعه اجعلنا للمتقين إماما في كل شيء أما الآية الثانية فقال تعالى { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي صيرناهم أئمة علما يهدون الناس أي يدلونهم على دين الله بأمر الله عز وجل ولكن ليت المؤلف ذكر آخر الآية لأن الله بين أنه جعلهم أئمة بسبب { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } لما صبروا على طاعة الله وصبروا عن معصية الله وصبروا على أقدار الله صبروا على طاعة الله ففعلوا ما أمر وصبروا عن معصية الله فتركوا ما نهى عنه وصبروا على أقدار الله التي تأتيهم من أجل دعوتهم إلى الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لأن الإنسان إذا نصب نفسه داعية للحق آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر فلابد أن يصيبه من الأذى ما يصيبه لأن أكثر الذين يكرهون الحق سوف يكونون أعداء له فليصبر وكذلك أقدار الله التي تأتي بدون هذا أيضا يصبرون عليها { لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } يوقنون بما أخبر الله به ويوقنون بالجزاء الذي يحصل لهم في فعل الأوامر وترك النواهي وفي الدعوة إلى الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أنهم يعملون وهم يوقنون بالجزاء وهذه نقطة ينبغي لنا أن ننتبه لها أن نعمل ونحن نوقن بالجزاء كثير من الناس يعملون يصلون ويصومون ويتصدقون بناء على أن هذا أمر الله وهذا طيب ولا شك أنه خير لكن ينبغي أن تدرك وأن تستحضر بأنك إنما تفعل هذا رجاء الثواب وخوف العقاب حتى تكون موقنا بالآخرة وقد أخذ شيخ الإسلام رحمه الله من هذه الآية عبارة طيبة فقال بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين أخذها من قوله تعالى { لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين أسأل الله أن يجعلني وإياكم أئمة في دين الله هداة لعباد الله مهتدين إنه جواد كريم
171 - عن أبي عمرو جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلال فأذن وأقام ثم صلى ثم خطب فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى آخر الآية { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } والآية الأخرى التي في آخر الحشر { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء رواه مسلم قوله مجتابي النمار هو بالجيم وبعد الألف باء موحدة والنمار: جمع نمرة وهي كساء من صوف مخطط ومعنى مجتابيها أي لابسيها قد خرقوها في رؤوسهم والجوب القطع ومنه قوله تعالى { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } أي نحتوه وقطعوه وقوله تمعر هو بالعين المهملة أي تغير وقوله رأيت كومين بفتح الكاف وضمها أي صبرتين وقوله كأنه مذهبة هو بالذال المعجمة وفتح الهاء والباء الموحدة قاله القاضي عياض وغيره وصحفه بعضهم فقال: مدهنة بدال مهملة وضم الهاء والنون كذا ضبطه الحميدي والصحيح المشهور هو الأول والمراد به على الوجهين الصفاء والاستنارة
الشَّرْحُ