باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم
قال الله تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } وقال تعالى { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم لعنة ولهم سوء الدار } وقال تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا }
336 - وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه قال المؤلف رحمه الله تعالى باب تحريم العقوق وقطيعة الأرحام العقوق بالنسبة للوالدين وقطيعة الأرحام بالنسبة للأقارب غير الوالدين والعقوق مأخوذ من العق وهو القطع ومنه سميت العقيقة التي تذبح عن المولود في اليوم السابع لأنها تعق يعني تقطع رقبتها عند الذبح والعقوق من كبائر الذنوب لثبوت الوعيد عليه من الكتاب والسنة وكذلك قطيعة الرحم قال الله تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } يعني أنكم إذا توليتم أفسدتم في الأرض وقطعتم الرحم وحقت عليكم اللعنة { وأعمى أبصارهم } المراد بالأبصار هنا البصيرة وليس بصر العين والمراد أن الله تعالى يعمي بصيرة الإنسان والعياذ بالله حتى يرى الباطل حقا والحق باطلا وهذه عقوبة أخروية ودنيوية أما الأخروية فقوله { أولئك الذين لعنهم الله } وأما الدنيوية فقوله { فأصمهم } يعني أصم آذانهم عن سماع الحق والانتفاع به { وأعمى أبصارهم } عن رؤية الحق والانتفاع به وقال تعالى { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } ميثاق العهد توكيده فينقضون العهد ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من القرابات وغيرهم ويفسدون في الأرض بكثرة المعاصي { أولئك لهم اللعنة } واللعنة تعني الطرد والإبعاد عن رحمة الله { ولهم سوء الدار } أي سوء العاقبة وقال الله تبارك وتعالى { وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } فأمر الله بالإحسان إلى الوالدين وقال إن بلغا عندك الكبر أحدهما أو كلاهما إما الأم أو الأم والأب جميعا فزجرت منهم لأن الإنسان إذا كبر قد يصل إلى الهرم وأرذل العمر فيتعب فقال حتى في هذه الحال { فلا تقل لهما أف } أي لا تقل إني متضجر منكما { ولا تنهرهما } أي عند القول { وقل لهما قولا كريما } يعني طيبا حسنا يدخل السرور عليهما ويزيل عنهم الكآبة والحزن { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } يعني ذل لهما مهما بلغت من علو المنزلة كما تعلو الطيور فاخفض لهما جناح الذل وتذلل لهما رحمة بهما { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } فارحمهما أنت وادع الله أن يرحمهما هذا هو الذي أمر الله به بالنسبة للوالدين في حال الكبر وأما في حال الشباب فإن الوالد في الغالب يكون مستغنيا عن ولده ولا يهمه ثم ذكر المؤلف حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين هذا من أكبر الكبائر فالإشراك بالله كبيرة في حق الله وعقوق الوالدين كبيرة في حق من هم أحق الناس بالولاية والرعاية وهما الوالدان وكان صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس أي معتمدا على يده فجلس واستقام في جلسته وقال ألا وقول الزور وشهادة الزور هذا أيضا من أكبر الكبائر وإنما جلس النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا لأن هذا ضرره عظيم وعاقبته وخيمة وقول الزور يعني الكذب وشهادة الزور أي الذي يشهد بالكذب والعياذ بالله وما أرخص شهادة الزور اليوم عند كثير من الناس يظن الشاهد أنه أحسن إلى من شهد له ولكنه أساء إلى نفسه وأساء إلى من شهد له وأساء إلى من شهد عليه أما إساءته إلى نفسه فلأنه أتى كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله بل من أكبر الكبائر وأما كونه أساء إلى المشهود له فلأنه سلطه على ما لا يستحق وأكله الباطل وأما إساءته إلى المشهود عليه فظاهر فإنه ظلمه واعتدى عليه ولهذا كانت شهادة الزور من أكبر الكبائر والعياذ بالله ولا تظن أنك إذا شهدت لأحد زورا أنك محسن إليه لا والله بل أنت مسيء إليه وللأسف فكثير من الناس الآن يشهد عند الحكومة في المسائل بأن فلان هو المستحق ويلبسون على الحكومة ويستعيرون أسماء ليست بصحيحة كل هذا من أجل أن ينالوا شيئا من الدنيا لكنهم خسروا الدنيا والآخرة بهذا الكذب والعياذ بالله وهذا الحديث يوجب للعاقل الحذر من هذه الأمور الأربعة الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور وشهادة الزور
337 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس رواه البخاري واليمين الغموس التي يحلفها كاذبا عامدا سميت غموسا لأنها تغمس الحالف في الإثم
338 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه وفي رواية إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
339 - وعن أبي محمد جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة قاطع قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم متفق عليه
340 - وعن أبي عيسى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعا وهات ووأد البنات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال متفق عليه قوله منعا معناه منع ما وجب عليه وهات طلب ما ليس له ووأد البنات معناه دفنهن في الحياة وقيل وقال معناه الحديث بكل ما يسمعه فيقول قيل كذا وقال فلان كذا مما لا يعلم صحته ولا يظنها وكفى المرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع وإضاعة المال تبذيره وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدنيا وترك حفظه مع إمكان الحفظ وكثرة السؤال الإلحاح فيما لا حاجة إليه وفي الباب أحاديث سبقت في الباب قبله كحديث وأقطع من قطعك وحديث من قطعني قطعه الله
الشَّرْحُ
هذه الأحاديث كلها تدل على تحريم قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وقد سبق لها نظائر ومما فيه زيادة عما سبق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من الكبائر شتم الرجل والديه يعني سبهما ولعنهما كما جاء ذلك في رواية أخرى لعن الله من لعن والديه قالوا يا رسول الله كيف يشتم الرجل والديه لأن هذا أمر مستغرب وأمر بعيد قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه وذلك تحذير من أن يكون الإنسان سببا في شتم والديه بأن يأتي إلى الشخص فيشتم والدي الشخص فيقابله الشخص الآخر بالمثل ويشتم والديه ولا يعني ذلك أنه يجوز للثاني أن يشتم والدي الرجل لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ولكنه في العادة والطبيعة أن الإنسان يجازي غيره بمثل ما فعل به فإذا سبه سبه وذلك كما قال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم لذلك لما كان سببا في سب والديه كان عليه إثم ذلك ثم ذكر المؤلف حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعا وهات ووأد البنات الشاهد من هذا الحديث قوله عقوق الأمهات وهو قطع ما يجب لهن من البر أما وأد البنات فهو دفنهن أحياء وذلك لأنهم في الجاهلية كانوا يكرهون البنات ويعيبون بقاء البنت عند الرجل ويقولون إن بقاء البنت عند الرجل مسبة له فكانوا والعياذ بالله يأتون بالبنت فيحفرون لها حفرة ويدفنونها وهي حية قال الله تعالى { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } فحرم الله ذلك وهو لا شك من أكبر الكبائر وإذا كان قتل الأجنبي المؤمن سببا للخلود في النار كما قال تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } فالقرابة أشد وأشد ومنعا وهات يعني أن يكون الإنسان جموعا منوعا يمنع ما يجب عليه بذله من المال ويطلب ما ليس له فهات يعني أعطوني المال ومنعا أي يمنع ما يجب عليه فإن هذا أيضا مما حرمه الله عز وجل لأنه لا يجوز للإنسان أن يمنع ما يجب عليه بذله من المال ولا يجوز أن يسأل ما لا يستحق فكلاهما حرام ولهذا قال إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال كره وحرم ليس بينهما فرق لأن الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم ولكن هذا والله أعلم من باب اختلاف التعبير فقط كره لكم قيل وقال يعني نقل الكلام وكثرة ما يتكلم الإنسان ويثرثر به وأن يكون ليس له هم إلا الكلام في الناس قالوا كذا وقيل كذا ولاسيما إذا كان هذا في أعراض أهل العلم وأعراض ولاة الأمور فإنه سيكون أشد وأشد كراهة عند الله عز وجل والإنسان المؤمن هو الذي لا يقول إلا خيرا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وكثرة السؤال يحتمل أن يكون المراد السؤال عن العلم ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المال أما الأول وهو كثرة السؤال عن العلم فهذا إنما يكره إذا كان الإنسان لا يريد إلا إعنات المسئول والإشقاق عليه وإدخال السآمة والملل عليه أما إذا كان يريد العلم فإنه لا ينهي عن ذلك ولا يكره ذلك وقد كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كثير السؤال فقد قيل له بم أدركت العلم قال أدركت العلم بلسان سؤول وقلب عقول وبدن غير ملول لكن إذا كان قصد السائل الإشقاق على المسئول والإعنات عليه وإلحاق السآمة به أو تلقط زلاته لعله يزل فيكون في ذلك قدح فيه فإن هذا هو المكروه وأما الثاني وهو سؤال المال فإن كثرة السؤال قد تلحق الإنسان بأصحاب الشح والطمع ولهذا لا يجوز للإنسان سؤال المال إلا عند الحاجة أو إذا كان يرى أن المسئول يمن عليه أن يسأله كما لو كان صديقا لك قوي الصداقة قريبا جدا فسألته حاجة وأنت تعرف أنه يكون بذلك ممنونا فهذا لا بأس به أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فلا يجوز أن تسأل إلا عند الضرورة وإما إضاعة المال فهو بذل الإنسان له في غير لا دينية ولا دنيوية لأن الله تعالى قال { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } فالمال قيام للناس تقوم به مصالح دينهم ودنياهم فإذا بذله الإنسان في غير ذلك فهذا إضاعة له وأقبح من ذلك أن يبذله في محرم فيرتكب في هذا محظورين المحظور الأول إضاعة المال والمحظور الثاني ارتكاب المحرم فالأموال يجب أن يحافظ عليها الإنسان وألا يضعها وألا يبذلها إلا فيما فيه مصلحة له دينية أو دنيوية
/0L2 باب بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه
341 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه
342 -