باب فضل البكاء من خشية الله تعالى وشوقا إليه
قال الله تعالى: { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وقال تعالى: { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } .
446 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا } قال: حسبك الآن فالتفت إليه . فإذا عيناه تذرفان . متفق عليه .
447 - وعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوههم ولهم خنين . متفق عليه . وسبق بيانه في باب الخوف .
448 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح .
449- وعنه قالَ : قالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى . وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ . وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه . اجتَمَعا عَلَيهِ . وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ . فَقَالَ : إِنّي أَخافُ اللَّه . ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ . ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفقٌ عليه .
450
450 - وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح .
451 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب رضي الله عنه: إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: { لم يكن الذين كفروا } قال: وسماني ؟ قال: نعم فبكى أبي . متفق عليه وفي رواية فجعل أبي يبكي .
452 - وعنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما . بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهيا إليها بكت . فقالا لها: ما يبكيك ؟ أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إني لا أبكي أني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها . رواه مسلم، وقد سبق في باب زيارة أهل الخير .
453 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة رضي الله عنها إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء فقال: مروه فليصل وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء . متفق عليه .
454 - وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلى بردة إن غطى بها رأسه بدت رجلاه وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا - قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا . ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام . رواه البخاري . هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف في باب البكاء من خشية الله أو من الشوق إليه سبحانه وتعالى، ذكر فيها عدة أحاديث منها حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء . المرجل: القدر يغلي على النار وله صوت معروف وأزيز صدر النبي صلى الله عليه وسلم كان من خشية الله بلا شك فهذا بكاء من خشية لله . وذكر حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ فقال: وسماني لك ؟ قال: نعم فبكى أبي . لكن هذا البكاء يحتمل أن يكون شوقا على الله تعالى لأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذه السورة على أبي تدل على رفعة أبي بن كعب رضي الله عنه ويحتمل أن يكون ذلك من الفرح فإن الإنسان ربما يبكي إذا فرح كما أنه يبكي إذا حزن . ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - أحاديث كلها تدل على البكاء بسبب الحزن على ما مضى منها حديث أم أيمن رضي الله عنها حين زارها الصحابيان أبو بكر وعمر، أتيا إليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها فلما أتيا بكت فقالا لها: ما يبكيك أما علمت أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: بلى إني لا أبكي أني لا أعلم . يعني بل أنا أعلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء انقطع الوحي فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها . وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين جيء إليه بالطعام وهو صائم والصائم يشتهي الطعام عادة، ولكنه رضي الله عنه تذكر ما كان عليه الصحابة الأولون وهو رضي الله عنه من الصحابة الأولين من المهاجرين رضي الله عنهم لكنه قال احتقارا لنفسه: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني . وكان مصعب رجلا شابا كان عند والديه بمكة وكان والداه أغنياء وكانا يلبسانه من خير لباس الشباب والفتيان، وقد دللاه دلالاً عظيما، فلما أسلم هجراه وأبعداه وهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان من المهاجرين وكان عليه ثوب مرقع بعدما كان في مكة عند أبويه يلبس أحسن الثياب لكنه ترك ذلك كله مهاجرا إلى الله ورسوله . وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم أحد، فاستشهد رضي الله عنه وكان معه بردة - أي ثوب - إذا غطوا به رأسه بدت رجلاه - وذلك لقصر الثوب - وإن غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر به رأسه وأن تستر رجلاه بالإذخر، نبات معروف . فكان عبد الرحمن بن عوف يذكر حال هذا الرجل، ثم يقول: إنهم قد مضوا وسلموا مما فتح الله به من الدنيا على من بعدهم من المغانم الكثيرة كما قال تعالى: { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } ثم قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا لأن الكافر يجزى على حسناته في الدنيا، وله في الآخرة عذاب النار، والمؤمن قد يجزى في الدنيا وفي الآخرة، لكن جزاء الآخرة هو الأهم . فخشي رضي الله عنه أن تكون حسناتهم قد عجلت لهم في هذه الدنيا فبكى خوفا وفرقا ثم ترك الطعام رضي الله عنه . ففي هذا: دليل على البكاء من خشية الله ومخافة عقابه
الشَّرْحُ
455- وعن أبي أُمامة صُدَيِّ بْنِ عَجلانَ الباهِليِّ ، رضيَ اللَّه عنه ، عن النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: « لَيْسَ شَيءٌ أَحَبَّ إِلى اللَّه تعالى من قَطْرَتَين . وأَثَرَيْنِ : قَطْرَةُ دُمُوعٍ من خَشيَةِ اللَّه وَقَطرَةُ دَمٍ تُهرَاقُ في سَبِيلِ اللَّه تعالى ، وأما الأثران فأثر في سبيل الله تعـالى وَأَثَرٌ في فَرِيضَةٍ منْ فَرَائِضِ اللَّه تعالى » رواه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ .
وفي البابِ أحاديثُ كثيرةٌ ، منها :
456- حديث العْرباض بنِ ساريةَ . رضي اللَّه عنه ، قال : وعَظَنَا رسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مَوْعِظَةً وَجِلَتْ منها القُلُوبُ ، وذَرَفْت منْهَا العُيُونُ » . وقد سبق في باب النهي عن البدع.
باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر
قال الله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . وقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } . وقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } . وقال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } . وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ } . وقال تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } . وقال تعالى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر . الدنيا: هي حياتنا التي نعيش فيها، وسميت دنيا لسببين: السبب الأول: أنها أدنى الآخرة، لأنها قبلها كما قال تعالى: وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى . والثاني: أنها ليست بشيء بالنسبة للآخرة، كما روى الإمام أحمد - رحمه الله - من حديث المستورد بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها موضع السوط، موضع العصى القصيرة الصغيرة في الجنة خير من الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها، فهذه هي الدنيا . وذكر المؤلف - رحمه الله - آيات عديدة كلها تفيد أنه لا ينبغي للعاقل أن يركن إلى الدنيا أو يغتر بها، أو يلهو بها عن الآخرة، أو تكون مانعا من ذكر الله عز وجل، منها قوله تعالى { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } يعني المطر { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } يعني أنبتت الأرض منه نباتا بأنواع الأعشاب من كل زوج بهيج { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } أي كملت { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ } كأن لم تكن . وهذه هي الحياة الدنيا، واعتبر ذلك أنت في واقعك فكم من أناس عشت معهم عاشوا في هذه الدنيا عيشة راضية وفي رفاهية وأنس وأولاد وزوجات وقصور وسيارات ثم انتقلوا عنها كأن لم يكونوا بالأمس، انتقلوا هم عنها أو يأتي دنياهم شيء يتلفها، فكم من إنسان غني عنده أموال عظيمة أصبح فقيرا يسأل الناس . فهذه هي الدنيا وإنما ضرب الله هذا المثل لئلا نغتر بها فقال: { كذلك } يعني مثل هذا التفصيل والتبيين { نفصل الآيات لقوم يتفكرون } لمن عندهم تفكير في الأمور ونظر في العواقب . ثم قال: { والله يدعو إلى دار السلام } أي فرق بين هذه وهذه، دار السلام: هي الجنة وسميت كذلك لأنها سالمة من كل كدر، ومن كل تنغيص، ومن كل أذى فإلى أيهما تركن أيها الغافل ؟ لا شك أن العاقل يركن إلى دار السلام، ولا تهمه دار الفناء والنكد والتنغيص، فهو سبحانه وتعالى يدعو كل الخلق إلى دار السلام { ويهدي من يشاء على صراط مستقيم } . والهداية مقيدة فإنه لم يقل كل أحد، ولكن قال: { وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فالحقيق والجدير بهداية الله هو من أناب إلى الله عز وجل، كما قال تعالى { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } وقال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ } كل من كان عنده نية طيبة وخالصة لابتغاء وجه الله والدار الآخرة فهذا هو الذي يهديه الله عز وجل، وهو داخل في قوله: { وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ثم ذكر المؤلف آيات أخرى مثل قوله: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ } معناه: أن الحياة الدنيا كماء نزل على أرض فأنبتت، فأصبح هشيما تذوره الرياح، يبس وصارت الرياح تطير به، هكذا أيضا الدنيا، وقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ } هذه خمسة أشياء كلها ليس بشيء لعب، ولهو وزينة، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد مثالها: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } أعجب الكفار، لأن الكفار هم الذين يتعلقون بالدنيا وتسبى عقولهم، فهذا نبات نبت من الغيث فصار الكفار يتعجبون من حسنه ونضارته: { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } يزول وينتهي { وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ } فأيهما تريد ؟ هناك { عذاب شديد } لمن آثر الحياة الدنيا على الآخرة وهناك { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ } لمن آثر الآخرة على الدنيا، والعاقل إذا قرأ القرآن وتبصر عرف قيمة الدنيا، وأنها ليست بشيء، وأنها مزرعة للآخرة، فانظر ماذا زرعت فيها لآخرتك ؟ أنت كنت زرعت خيرا فأبشر بالحصاد الذي يرضيك وإن كان الأمر بالعكس فقد خسرت الدنيا والآخرة، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية . وأما الأحاديث فأكثر من أن تحصر فننبه بطرف منها على ما سواه
الشَّرْحُ
457 - عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله، فقال: أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم متفق عليه .
458 -