62- باب الإيثار المواساة
قال اللَّه تعالى:{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
وقال تعالى: { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً } إلى آخر الآيات.
564- وعن أبي هُريرة رضي اللَّه عنه قال : جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال : إني مَجْهُودٌ ، فأَرسَلََ إِلى بَعضِ نِسائِهِ ، فَقَالت : والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما عِندِي إِلاَّ مَاءٌ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى أُخْرَى . فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ ، حتَّى قُلْنَ كُلُّهنَّ مِثل ذَلِكَ : لا وَالذِي بعثَكَ بِالحَقِّ ما عِندِي إِلاَّ مَاءٌ . فقال النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « من يُضِيفُ هَذا اللَّيْلَةَ ؟ » فقال رَجُلٌ مِن الأَنْصارِ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلى رحْلِهِ ، فَقَال لامْرَأَتِهِ : أَكرِمِي : ضَيْفَ رسولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم.
وفي رواية قال لامرَأَتِهِ : هل عِنْدَكِ شَيءٌ ؟ فَقَالَتْ : لا ، إِلاَّ قُوتَ صِبيانِي قال : عَلِّليهمْ بِشَيءٍ وإِذا أَرَادُوا العَشَاءَ ، فَنَوِّميهِم ، وإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا ، فَأَطفِئي السِّرَاجَ ، وأَريِهِ أَنَّا نَأْكُلُ ، فَقَعَدُوا وأَكَلَ الضَّيفُ وبَاتا طَاوِيَيْنِ ، فَلَمَّا أَصْبح ، غَدَا على النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : فقال: « لَقَد عَجِبَ اللَّه مِن صَنِيعِكُمَا بِضَيفِكُمَا اللَّيْلَةَ » متفقٌ عليه .
565- وعنه قالَ : قالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « طَعَامُ الاثْنَينِ كافي الثَّلاثَةِ ، وطَعامُ الثَّلاثَةِ كافي الأَربَعَةِ » متفقٌ عليه .
وفي رواية لمسلمٍ رضي اللَّه عنه ، عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « طَعَامُ الوَاحِد يَكفي الاثْنَيْنِ ، وطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفي الأربَعَةَ وطَعَامُ الأرْبعةِ يَكفي الثَّمَانِيَةَ » .
566- وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي اللَّهُ عنه قال : بينَمَا نَحْنُ في سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إِذ جَاءَ رَجُلٌ على رَاحِلَةٍ لَهُ ، فَجَعَلَ يَصْرفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً ، فَقَال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ ، وَمَن كانَ لَهُ فَضْلٌ مِن زَادٍ ، فَليَعُدْ بِهِ على مَن لا زَادَ لَهُ » فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأحدٍ مِنَّا في فَضْلٍ » رواه مسلم .
567- وعن سَهلِ بنِ سعدٍ رضي اللَّه عنه أَنَّ امرَأَةً جَاءَت إِلى رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِبُردةٍ مَنسُوجَةٍ ، فقالت : نَسَجتُها بِيَديَّ لأكْسُوَكَهَا ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مُحتَاجاً إِلَيهَا ، فَخَرَجَ إِلَينا وَإِنَّهَا لإزَارُهُ ، فقال فُلانٌ اكسُنِيهَا مَا أَحسَنَها ، فَقَالَ: « نَعَمْ » فَجلَس النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في المجلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَواهَا ، ثُمَّ أَرسَلَ بِهَا إِلَيْهِ : فَقَالَ لَهُ القَوْمُ : ما أَحسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مُحْتَاجاً إِلَيها ، ثُمَّ سَأَلتَهُ ، وَعَلِمت أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلاً ، فَقَالَ : إني وَاللَّهِ ما سَأَلْتُهُ لألْبَسَها ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتكُونَ كَفَنِي . قال سَهْلٌ : فَكانت كَفَنَهُ . رواه البخاري .
568- وعن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال : قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « إِنَّ الأشعَرِيين إِذَا أَرملُوا في الْغَزْوِ ، أَو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِم بالمَدِينَةِ ، جَمَعُوا ما كَانَ عِندَهُم في ثَوبٍ وَاحدٍ ، ثُمَّ اقتَسَمُوهُ بَيْنَهُم في إِنَاءٍ وَاحِدٍ بالسَّويَّةِ فَهُم مِنِّي وَأَنَا مِنهُم » متفقٌ عليه .
« أَرمَلُوا » : فَرَغَ زَادُهُم ، أَو قَارَبَ الفَرَاغَ .
63- باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يُتَبَرَّكُ فيه
قال اللَّه تعالى: { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .
569- وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم أُتِيَ بِشَرَابٍ ، فَشَرِبَ مِنهُ وَعَن يَمِينِهِ غُلامٌ ، وَعَن يسارِهِ الأَشْيَاخُ ، فقال لِلْغُلام : « أَ تَأْذَنُ لي أَن أُعْطِيَ هُؤلاءِ؟ فَقَالَ الغُلامُ : لا وَاللَّهِ يا رسُولَ اللَّه لا أُوثِرُ بِنَصيبي مِنكَ أَحَداً ، فَتَلَّهُ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في يَدِهِ . متفقٌ عليه .
« تَلَّهُ » بالتاءِ المثناةِ فوق ، أَيْ : وَضَعَهُ ، وَهَذَا الغُلامُ هُوَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما.
570- وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عَنِ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « بيْنَا أَيُّوبُ عليه السلام يَغتَسِلُ عُريَاناً ، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِن ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحِثي في ثَوبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجلَّ : يَا أَيُّوبُ ، أَلَم أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عمَّا تَرَى ؟، قال : بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلكِن لا غِنَى بي عَن بَرَكَتِكَ » رواه البخاري .
64- باب فضل الغني الشاكر
وهو من آخذ المال من وجه وصرفه في وجوهه المأمور بها
قال اللَّه تعالى: { فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى } .
وقال تعالى: { وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى } .
وقال تعالى: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم، والله بما تعملون خبير } .
وقال تعالى:{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن اللَّه به عليم } . والآيات في فضل الإنفاق في الطاعات كثيرة معلومة.
571- وعن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رضي اللَّه عنه قال : قالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا حَسَدَ إِلاَّ في اثَنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فَسَلَّطَهُ على هَلكَتِهِ في الحَقِّ . ورَجُلٌ آتَاه اللَّهُ حِكْمَةً فُهو يَقضِي بِها وَيُعَلِّمُهَا » متفقٌ عليه وتقدم شرحه قريباً .
572- وعن ابْنِ عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « لا حَسَد إِلاَّ في اثنَتَين : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّه القُرآنَ ، فهو يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيل وآنَاءَ النَّهارِ . وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّه مَالاً . فهوَ يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وآنَاءَ النَّهارِ » متفقٌ عليه . « الآنَاءُ » السَّاعَاتُ .
573- وعَن أبي هُريرة رضي اللَّه عنه أَنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم . فقالوا : ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجاتِ العُلَى . والنَّعِيمِ المُقِيمِ . فَقَال : « ومَا ذَاكَ ؟ » فَقَالُوا : يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي ، ويَصُومُونَ كمَا نَصُومُ . وَيَتَصَدَّقُونَ ولا نَتَصَدَّقُ ، ويَعتِقُونَ ولا نَعتقُ فقال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيئاً تُدرِكُونَ بِهِ مَنْ سبَقَكُمْ ، وتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُم إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثلَ ما صَنَعْتُم ؟ » قالوا : بَلَى يا رسولَ اللَّه ، قَالَ : « تُسبحُونَ ، وتحمَدُونَ وتُكَبِّرُونَ ، دُبُر كُلِّ صَلاة ثَلاثاً وثَلاثِينَ مَرَّةً » فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَقَالُوا : سمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَموَالِ بِمَا فَعلْنَا ، فَفَعَلوا مِثْلَهُ ؟ فَقَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « ذلك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يشَاءُ » متفقٌ عليه ، وهذا لفظ روايةِ مسلم .
« الدُّثُورُ » : الأَموالُ الكَثِيرَةُ ، واللَّه أعلم .
65- باب ذكر الموت وقصر الأمل