باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به
قال الله تعالى: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } .
569 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده متفق عليه . ذكر المؤلف - رحمه الله - في آخر باب فضل الإيثار، حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأصحابه الذين هم من الأشعريين من أهل اليمن كانوا يتساعدون في أمورهم فإذا أتاهم شيء من المال جمعوه ثم اقتسموه بينهم بالسوية قال النبي صلى الله عليه وسلم فهم مني وأنا منهم قال ذلك تشجيعا لما يفعلونه . وهذا الحديث أصل في الجمعيات التعاونية التي يفعلها بعض الناس اليوم، تجتمع القبيلة على أن يضعوا صندوقا يجمعون فيها ما تيسر من المال، إما بالنسبة وإما بالاجتهاد والترشيح فيتفقون مثلا على أن كل واحد منهم يدفع اثنين من المائة من راتبه أو من كسبه أو ما أشبه ذلك، ويكون هذا الصندوق معدا للجوائح والنكبات التي تحصل على واحد منهم . فهذا أصل حديث أبي موسى رضي الله عنه فإذا جمع الناس صندوقا على هذا النحو ليتساعدوا فيه على نكبات الزمان من الحوادث وغيرها فإن لذلك أصلا في السنة وهو من الأمور المشروعة . ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا الصندوق قد يكون لمن يقع عليه الحادث وقد يكون لمن يقع منه الحادث . أما الأول: فأن يوضع الصندوق للناس لمساعدة الناس الذين يحصل عليهم جوائح مثل جوائح تتلف زروعهم ومواشيهم أو أمطار تهدم بيوتهم أو حوادث تحدث على سياراتهم من غيرهم فيحتاجون إلى المساعدة فهذا طيب ولا إشكال فيه . أما الثاني: فهو للحوادث التي تقع من الشخص فإذا فعل شخص حادثا إذا دعس أحدا أو ما أشبه ذلك، فينبغي أن ينظر في هذا الأمر لأننا إذا وضعنا صندوقا لهذا فإن السفهاء قد يتهورون ولا يهمهم أن تقع الحوادث منهم، فإن قدر أننا وضعنا صندوقا لهذا الشيء فليكن ذلك بعد الدراسة دراسة ما حصل من الشخص دراسة عميقة وأنه لم يحصل منه تهور ولم يحصل منه تفريط وإلا فلا ينبغي أن توضع الصناديق لمساعدة هؤلاء السفهاء الذين يوما يدعون شخصا ويوما يصدمون سيارة وما أشبه ذلك وربما يقع ذلك عن حال غير مرضية كسكر أو عن حال يفرط فيها الإنسان كالنوم مثلا . المهم أن هذه الصناديق تكون على وجهين: الوجه الأول: مساعدة من يحصل عليه الحادث فهذا طيب ولا إشكال فيه . والوجه الثاني: أن يكون ممن يحصل منه الحادث فهذا إن وضع - ولا أحبذ أن يوضع، لكن إن وضع - فإنه يجب التحرز والتثبت من كون هذا الرجل الذي حصل منه الحادث لم يحصل منه تفريط ولا تعد . ثم إن هذا المال الذي يوضع في الصندوق ليس فيه زكاة مهما بلغ من القدر وذلك لأنه ليس له مالك ومن شروط وجوب الزكاة أن يكون المال له مالك وهذا الصندوق ليس له مالك بل من حصل عليه حادث فإنه يساعد منه، وأما أصحاب الصندوق الذين وضعوا هذه الفلوس فيه فإنهم لا يملكون نقدها لأنهم قد أخرجوها من أموالهم للمساعدة وعلى هذا فلا يكون فيها زكاة . ثم هاهنا مسألة يسأل عنها الكثير من الناس، وهي أن يجتمع أناس من الموظفين مثلا، ويقولون: سنخصم من راتب من رواتب هؤلاء النفر ألف ريال على كل واحد، أو عشرة في المائة من راتبه يعني إما بالنسبة أو بالتعيين ونعطيها واحدا منا وفي الشهر الثاني نعطيها الثاني، وفي الشهر الثالث نعطيها للثالث، وفي الشهر الرابع نعطيها للرابع، حتى تدور ثم ترجع للأول المرة الثانية، فبعض الناس يسألون عن ذلك . والجواب على هذا أن نقول: إن هذا صحيح ولا بأس به وليس فيه حرج ومن توهم أنه من باب القرض الذي جر نفعا فقد وهم لأني إذا سلفت هؤلاء الإخوان الذين معي شيئا فأنا لا آخذ أكثر مما أعطيت وكونهم يقولون سوف يرجع إليه مال كثير نقول: نعم ولكن لم يرجع إليه أكثر مما أعطي فغاية ما فيه أنه سلف بشرط أنه يوفى وليس في هذا شيء . فهذا وهم من بعض طلبة العلم الذين يظنون أن هذا من باب الربا، لأنه ليس فيه ربا إطلاقا، بل هو من باب التساعد والتعاون وكثيرا ما يحتاج بعض الناس إلى أموال حاضرة تفك مشاكله، ويسلم من أن يذهب إلى أحد يتدين منه ويربى عليه، أو يذهب إلى بنك يأخذ منه بالربا أو ما أشبه ذلك فهذه مصلحة وليس فيها مفسدة بأي وجه من الوجوه
الشَّرْحُ
570- وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عَنِ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « بيْنَا أَيُّوبُ عليه السلام يَغتَسِلُ عُريَاناً ، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِن ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحِثي في ثَوبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجلَّ : يَا أَيُّوبُ ، أَلَم أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عمَّا تَرَى ؟، قال : بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلكِن لا غِنَى بي عَن بَرَكَتِكَ » رواه البخاري .
باب فضل الغني الشاكر وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها
قال الله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } . وقال الله تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . وقال الله تعالى: { إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وقال تعالى: { لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ } . والآيات في فضل الإنفاق في الطاعات معلومة . قال المؤلف - رحمه الله تعالى - باب فضل الغني الشاكر، وهو الذي يأخذ المال بحقه ويصرفه في حقه . فالغني هو الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى ما يستغني به عن غيره من مال أو علم أو جاه أو غير ذلك وإن كان الأكثر استعمالا أن الغني هو الذي أعطاه الله المال الذي يستغني به عن غيره . والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بالمال يعني بالغنى وبالفقر فمن الناس من لو أغناه الله لأفسده الغني ومن الناس من لو أفقره الله لأفسده الفقر، والله عز وجل يعطي كل أحد يحسب ما تقتضيه الحكمة كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وإذا أعطى الله الإنسان المال فإنه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: من يعطيه الله المال يكتسبه من طريق حرام: كالمرابي والكذاب والغشاش في البيع والشراء ومن أكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك فهذا غناه لا ينفعه لأنه غنى في الدنيا ولكنه فقر - والعياذ بالله - في الدنيا والآخرة . إذ إن هذا الشيء الذي دخل عليه من هذا الوجه سوف يعاقب عليه يوم القيامة وأعظمه الربا، فإن الله عز وجل يقول في كتابه: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ويقول الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } . القسم الثاني: من أغناه من أغناه الله بمال لكن عن طريق الحلال يبيع بالبيان والنصح والصدق فهذا هو الذي ينفعه غناه لأن من كان كذلك فالغالب أن الله يوفقه لصرفه فيما ينفع . فهذا هو الغني الشاكر الذي يأخذ المال بحقه ويصرفه في حقه على الوجه الذي شرعه الله له . ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - آيات في هذا المعنى فذكر قول الله سبحانه وتعالى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } . أعطى يعني بذل الماء في وجهه واتقى الله سبحانه وتعالى في بذله وفي جمعه، فهذا ييسر لليسرى . وقال سبحانه: { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } . وقال تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا } يعني النار { الأتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى } يعني سيجنب هذه النار { الأتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } يعني على وجه يتزكى به، وعلى وجه يقربه إلى الله عز وجل . { وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } يعني ليس يعطي المال من باب المكافآت على قضاء مصالحه الشخصية ولكنه يعطي المال لله ولهذا قال: { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى } فهو يعطي المال ابتغاء وجه ربه الأعلى { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } بما يجازيه الله به . فعلى المؤمن إذا أغناه الله عز وجل أن يكون شاكرا لله قائما بما أوجب الله عليه من بذل المال في حقه على الوجه الذي يرضى الله عز وجل
الشَّرْحُ
571 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها متفق عليه وتقدم شرحه قريبا .
572 -