باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
قال الله تعالى: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } وقال تعالى: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } . وقال الله تعالى: { وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ، أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } قال النووي - رحمه الله تعالى - في كتاب رياض الصالحين: باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين . التواضع: ضد التعالي وهو ألا يرتفع الإنسان ولا يرتفع على غيره بعلم ولا نسب ولا مال ولا جاه ولا إمارة ولا وزارة ولا غير ذلك، بل الواجب على المرء أن يخفض جناحه للمؤمنين أن يتواضع لهم كما كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة عند الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواضع للمؤمنين، حتى إن الصبية لتمسك بيده لتأخذه إلى أي مكان تريد فيقضي حاجتها عليه الصلاة والسلام . وقول الله تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وفي آية أخرى: { لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ } أي تواضع وذلك أن المتعالي والمترفع يرى نفسه أنه كالطير يسبح في جو السماء فأمر أن يخفض جناحه وينزله للمؤمنين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من هذا أن الكافر لا يخفض له الجناح وهو كذلك، بل الكافر ترفع عليه واعل عليه، واجعل نفسك في موضع أعلى منه، لأنك مستمسك بكلمة الله، وكلمة الله هي العليا ولهذا قال الله عز وجل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } يعني أنهم على الكفار أقوياء ذووا غلظة، أما فيما بينهم فهم رحماء ثم ساق المؤلف الآية الثانية وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي من يرجع منكم عن دينه فيكون كافرا بعد أن كان مؤمنا وهذا قد يقع من الناس، أن يكون الإنسان داخلا في الإسلام عاملا به، ثم يزيغه الشيطان - والعياذ بالله - حتى يرتد عن دينه، فإذا ارتد عن دينه فإنه لا يكون وليا للمؤمنين ولا يكون معينا للمؤمنين، ولهذا قال: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } يعني بقوم مؤمنين { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهم في جانب المؤمنين أذلة لا يترفعون عليهم، ولا يأخذون بالعزة عليهم، ولكنهم يذلون لهم، أما على الكفار فهم أعزة مترفعون، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه إذلالا لهم، وخذلانا لهم، لأنهم أعدى أعداء لك، وأعداء لربك، وأعداء لرسولك، وأعداء لدينك، وأعداء لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الآية: دليل على إثبات المحبة من الله عز وجل، وأن الله يحب ويحب { فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وهذا الحب حب عظيم لا يماثله شيء تجد المحب لله عز وجل ترخص عنده الدنيا، والأهل، والأموال، بل والنفس فيما يرضى الله عز وجل، ولهذا يبذل ويعرض رقبته لأعداء الله، محبة في نصرة الله عز وجل ونصرة دينه، وهذا دليل على أن الإنسان مقدم ما يحبه ورسوله على ما تهواه نفسه . ومن علامات محبة الله: أن الإنسان يديم ذكر الله، يذكر ربه دائما بقلبه ولسانه وجوارحه . ومنها: أن يحب من أحب الله عز وجل من الأشخاص فيحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب الخلفاء الراشدين، ويحب الأئمة ويحب من كان في وقته من أهل العلم والصلاح . ومنها: أن يقوم الإنسان بطاعة الله، مقدما ذلك على هواه فإذا أذن المؤذن يقول: حي على الصلاة، ترك عمله وأقبل إلى الصلاة، لأنه يحب ما يرضى الله أكثر من محبته ما ترضى به نفسه . ولمحبة الله علامات كثيرة، إذا أحب الإنسان ربه فالله عز وجل أسرع إليه حبا لأنه قال سبحان وتعالى في الحديث القدسي: ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وإذا أحبه الله فهذا هو المقصود الأعظم . ولهذا قال تعالى: { قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } ولم يقل: فاتبعوني تصدقوا الله بل قال: { يُحْبِبْكُمُ اللهُ } لأن هذه هي الثمرة أن يحب الرب عز وجل عبده، فإذا أحب عبده نال خيري الدنيا والآخرة جعلني الله وإياكم من أحبابه . وفي قوله: { ويحبونه } دليل على إثبات محبة العبد لربه، وهذا أمر واضح واقع مشاهد يجد الإنسان من قلبه ميلا إلى ما يرضى الله، وهذا يدل على أنه يحب الله عز وجل والإنسان المؤمن الموفق لهذه الصفة العظيمة، تجده يحب الله أكثر من نفسه أكثر من ولده أكثر من أمه أكثر من أبيه يحب الله أكثر من كل شيء ويحب الشخص لأنه يحب الله ومعلوم أن المحب يحب أحباب حبيبه فتجد هذا الرجل لمحبته لله يحب من يحبه الله عز وجل من الأشخاص، وما يحبه من الأعمال، وما يحبه من الأقوال . ثم ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } يخاطب الله عز وجل الناس كلهم مبينا أنه خلقهم من ذكر وأنثى أي من هذا الجنس أو من هذا الشخص . يعني إما أن يكون المراد بالذكر والأنثى آدم وحواء . أو أن المراد الجنس أي أن بني آدم خلقوا كلهم من ذكر وأنثى وهذا هو الغالب وهو الأكثر . وإلا فإن الله خلق آدم من غير أم ولا أب خلقه من تراب من طين، من صلصال كالفخار، ثم نفخ فيه من روحه، خلق له روحا فنفخها فيه فصار بشرا سويا وخلق الله حواء من أب بلا أم . وخلق الله عيسى من أم بلا أب . وخلق الله سائر البشر من أم وأب . والإنسان أيضا كما أنه أربعة أنواع من جهة مادة خلقه، كذلك هو أربعة أنواع من جهة جنس الخلق، يقول الله عز وجل: { للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَّشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَّشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } هذه أيضا أربعة أقسام: { يهب لمن يشاء إناثا } بلا ذكور يعني يوجد بعض الناس يولد له الإناث ولا يولد له ذكور أبدا، كل نسله إناث . { ويهب لمن يشاء الذكور } فيكون كل نسله ذكورا بلا إناث { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } يزوجهم أي يصنفهم لأن الزوج يعني الصنف، كما قال تعالى: { وآخر من شكله أزواج } أي أصناف وقال: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أي أصنافهم وأشكالهم، يزوجهم أي يصنفهم ذكرانا وإناثا هذه ثلاثة أقسام . القسم الرابع: { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا } لا يولد له لا ذكر ولا أنثى لأن الله سبحانه وتعالى له ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء لا معقب لحكمه وهو السميع العليم . يقول جل ذكره: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ } الشعوب: الطوائف الكبيرة كالعرب والعجم وما أشبه ذلك، والقبائل ما دون ذلك جمع قبيلة الناس بنو آدم شعوب وقبائل . شعوب: أمم عظيمة كبيرة كما تقول: العرب بجميع أصنافهم والعجم بجميع أصنافهم، كذلك القبائل دون ذلك، كما نقول: قريش بنو تميم وما أشبه ذلك، هؤلاء القبائل . { لتعارفوا } هذه هي الحكمة من أن الله جعلنا شعوبا وقبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضا هذا عربي وهذا عجمي هذا من بني تميم، هذا من قريش هذا من خزاعة، وهكذا فالله جعل هذه القبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضا، لا من أجل أن يفخر بعضنا على بعض، فيقول: أنا عربي وأنت عجمي، أنا قبيلي وأنت خضيري، أنا غني وأنت فقير، هذا من دعوى الجاهلية والعياذ بالله، لم يجعل الله هؤلاء الأصناف إلا من أجل التعارف فقط، لا من أجل التفاخر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وأدم من تراب . فالفضل في الإسلام بالتقوى أكرمنا عند الله هو الأتقى لله عز وجل فمن كان أتقى لله فهو عند الله أكرم . ولكن يجب أن نعلم أن بعض القبائل أو بعض الشعوب أفضل من بعض، فالشعب الذي بعث فيه الرسول عليه الصلاة والسلام هو أفضل الشعوب، شعب العرب أفضل الشعوب لأن الله قال في كتابه: { اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا . ولا يعني هذا إهدار الجنس البشري بالكلية . لا . لكن التفاخر هو الممنوع أما التفاضل فإن الله يفضل بعض الأجناس على بعض، فالعرب أفضل من غيرهم، جنس العرب أفضل من جنس العجم، لكن إذا كان العربي غير متق والعجمي متقيا، فالعجمي عند الله أكرم من العربي . ثم ساق المؤلف الآيات الأخرى { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } لا تزكوها: أي لا تصفوها بالزكاة افتخارا، وأما التحدث بنعمة الله على العبد مثل أن يقول القائل: كان مسرفا على نفسه، كان منحرفا فهداه الله ووفقه ولزم الاستقامة، تحدثا بنعمة الله لا تزكية لنفسه، فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه أن يذكر الإنسان نعمة الله عليه في الهداية والتوفيق، كما أنه لا حرج أن يذكر نعمة الله عليه بالغنى بعد الفقر . وقوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } هو أي الرب عز وجل: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وكم من شخصين يقومان بعمل أو يدعان عملا وبينهما في التقى مثل ما بين السماء والأرض، ولهذا قال: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } تجد الشخصين يصليان كل واحد جنب الآخر، لكن بين ما في قلوبهما من التقوى مثل ما بين السماء والأرض شخصان يتجنبان الفاحشة لكن بينهما من التقوى مثل ما بين السماء والأرض، ولهذا قال: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } . ثم ذكر المؤلف آية أخرى وهي قوله تعالى: { وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } أصحاب الأعراف: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلا يدخلون الجنة ولا يدخلون النار، يحشر أهل النار إلى النار، ويساق المتقون إلى الرحمن وفدا، إلى الجنة زمرا فيدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، وأصحاب الأعراف في مكان مرتفع . فالأعراف: جمع عرف وهو المكان المرتفع، لكن ليسوا في الجنة وليسوا في النار، وهم يطلعون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء وفي النهاية يدخلون الجنة لأنه ليس هناك إلا جنة أو نار هما الباقيتان أبدا، وأما ما سواهما فيزول . فيقول الله تعالى: { وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي بعلامتهم معرفة تامة، { قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } يعني جمعكم المال والأولاد والأهل ما أغنى عنكم هؤلاء وما أغنى عنكم جمعكم من الناس الذين هم جنودكم تجمعونهم إليكم وتستنصرون بهم، ما أغنوا عنكم شيئا { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } يعني وما أغنى عنكم استكباركم على الحق . { أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ } يعني الضعفاء وكان الملأ المكذبون للرسل يسخرون من المؤمنين ويقولون: { أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } يقولون أهؤلاء أصحاب الرحمة ؟ أهؤلاء أهل الجنة ؟ يسخرون منهم { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ } فيقولون لهم: { أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } يعني قد قيل لهم { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } . إذا تواضعهم للحق واتباعهم الرسل هو الذي بلغهم هذه المنازل العالية، أما هؤلاء المستكبرون الذين فخروا بما أغناهم الله به من الجمع والمال، فإن ذلك لم يغن عنهم شيئا فدل ذلك على فضل التواضع للحق .
الشَّرْحُ
602 - وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد رواه مسلم .
603 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله رواه مسلم .
604- وعن أَنس رضي اللَّه عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبيانٍ فَسَلَّم عَلَيْهِم وقال : كان النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَفْعَلُهُ . متفقٌ عليه .
605-
605 - وعنه قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت رواه البخاري . هذه الأحاديث ذكرها المؤلف - رحمه الله - في كتاب رياض الصالحين في باب التواضع فمنها حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا يعني أن يتواضع كل واحد للآخر ولا يترفع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان من عادة السلف رحمهم الله، أن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه ومن هو أكبر مثل أبيه ومن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى من هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحد على أحد وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يتصف بها، أي بالتواضع لله عز وجل ولإخوانه من المسلمين . وأما الكافر فقد أمر الله تعالى بمجاهدته والغلظة عليه وإغاظته وإهانته بقدر المستطاع، لكن من كان له عهد وذمة فإنه يجب على المسلمين أن يفوا له بعهده وذمته، وألا يقفروا ذمته، وألا يؤذوه ما دام له عهد . ثم ذكر المؤلف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال يعني أن الصدقات لا تنقص الأموال كما يتوهمه الإنسان، وكما يعد به الشيطان، فإن الشيطان كما قال الله عز وجل: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ . الفحشاء: كل ما يستفحش من بخل أو غيره فهو يعد الإنسان الفقر، إذا أراد الإنسان أن يتصدق قال: لا تتصدق هذا ينقص مالك، هذا يجعلك فقيرا، لا تتصدق، أمسك ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن الصدقة لا تنقص المال، فإن قال قائل: كيف لا تنقص المال، والإنسان إذا كان عنده مائة فتصدق بعشرة صار عنده تسعون، فيقال: هذا نقص كم، ولكنها تزيد في الكيف، ثم يفتح الله للإنسان أبوابا من الرزق ترد عليه ما أنفق، كما قال الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي يجعل بدله خلفا . فلا تظن أنك إذا تصدقت بعشرة من مائة فصارت تسعين أن ذلك ينقص المال، بل يزيده، بركة ونماء، وترزق من حيث لا تحتسب . وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا يعني أن الإنسان إذا عفا عمن ظلمه فقد تقول له نفسه: إن هذا ذل وخضوع وخذلان فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله ما يزيد أحدا إلا عزا فيعزه الله ويرفع من شأنه، وفي هذا حث على العفو ولكن العفو مقيد بما إذا كان إصلاحا لقول الله تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ } أما إذا لم يكن إصلاحا بل كان إفسادا فإنه لا يؤمر به مثال ذلك اعتدى شخص شرير معروف بالعدوان على آخر، فهل نقول للآخر الذي اعتدى عليه: اعف عن هذا الشرير ؟ لا نقول: اعف عنه لأنه شرير إذا عفوت عنه تعدى على غيرك من الغد، أو عليك أنت أيضا فمثل هذا نقول: الحزم والأفضل أن تأخذه بجريرته، يعني أن تأخذ حقك منه، وألا تعفو عنه، لأن العفو عن أهل الشر والفساد ليس بإصلاح بل لا يزيدهم إلا فسادا وشرا . فأما إذا كان في العفو خير وإحسان وربما يخجل الذي عفوت عنه ولا يتعدى عليك ولا على غيرك فهذا خير . وما تواضع أحد لله إلا رفعه هذا الشاهد من الحديث: ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله والتواضع لله له معنيان: المعنى الأول: أن تتواضع لدين الله، فلا تترفع عن الدين ولا تستكبر عنه وعن أداء أحكامه . والثاني: أن تتواضع لعباد الله من أجل الله، لا خوفا منهم، ولا رجاء لما عندهم ولكن لله عز وجل . والمعنيان صحيحان فمن تواضع لله، رفعه الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة وهذا أمر مشاهد أن الإنسان المتواضع يكون محل رفعة عند الناس وذكر حسن، ويحبه الناس، وانظر إلى تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أشرف الخلق، حيث كانت الأمة من إماء المدينة تأتي إليه، وتأخذ بيده، وتذهب به حيث شاءت ليعينها في حاجتها، هذا وهو أشرف الخلق، أمة من الإماء تأتي وتأخذ بيده تذهب به حيث شاءت ليقضي حاجتها، ولا يقول أين تذهبين بي، أو يقول: اذهبي إلى غيري، بل كان يذهب معها ويقضي حاجتها، لكن مع هذا ما زاده الله عز وجل بذلك إلا عزا ورفعة صلوات الله وسلامه عليه .
الشَّرْحُ
604 - وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله متفق عليه .