شرح رياض الصالحين
كتاب اللباس
باب استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها إلا الحرير
قال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ }
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله: ( كتاب اللباس ) وهذا من أحسن الترتيب فإن الأكل والشرب لباس الباطن والثياب لباس الظاهر قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فقال: { ألا تجوع فيها ولا تعرى } لأن الجوع عرى الباطن فخلو البطن من الطعام عري لها { ولا تعرى } من لباس الظاهر { وأنك لا تظمأ فيها } هذا حرارة الباطن { ولا تضحي } هذا حرارة الظاهر، ولهذا أشكل على بعض الناس قال: لماذا لم يقل إن لك ألا تجوع فيها ولا تظمأ وأنك لا تعرى فيها ولا تضحي ؟ ولكن من تفطن للمعنى الذي أشرنا إليه تبين له بلاغة القرآن { ألا تجوع فيها } هذا انتفاء العري في الباطن { ولا تعرى } انتفاؤه في الظاهر { لا تظمأ } هذا انتفاء الحرارة في الباطن { ولا تضحي } يعني لا تتعرض للشمس الحارة فيه انتفاء للحرارة في الظاهر كذلك المؤلف رحمه الله بدأ بآداب الأكل ثم بآداب الشرب ثم اللباس الذي هو كسوة الظاهر وافتتح هذا الكتاب بقوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } فذكر الله تعالى نوعين من اللباس: نوعا ظاهرا ونوعا باطنا أو نوعا حسيا ونوعا معنويا وذكر أن الحسي قسمان: قسم ضروري تواري به العورة، وقسم كمالي وهو الريش لباس الزينة و الله سبحانه وتعالى من حكمته أن جعل بني آدم محتاجين للباس لمواراة السوءة يعني لتغطية السوءة حتى يتستر الإنسان وكما أنه محتاج للباس يواري سوءته الحسية فهو محتاج للباس يواري سوءته المعنوية وهي المعاصي وهذا من حكمة الله تعالى ولهذا نجد غالب المخلوقات سوي الآدمي لها ما يستر جلدها من شعر أو صوف أو وبر أو ريش لأنها ليست بحاجة إلى أن تتذكر العري المعنوي بخلاف بني آدم فإنهم محتاجون إلي أن يتذكروا العورة المعنوية وهي عورة الذنوب حمانا الله منها { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } أي عوراتكم { وريشا } أي ثاب زينة وجمال زائدة عن اللباس الضروري { ولباس التقوى } هذا هو اللباس المعنوي { ذلك خير } أي خير من اللباس الظاهر سواء كان مما هو ضروري كالذي يواري السوءة أم من الكمالي وإذا كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر فيجب على الإنسان أن يفكر حيث تجدنا نحرص على نظافة اللباس الظاهر فالإنسان إذا أصاب ثوبه بقعة أو وسخ هب يغسلها بالماء والصابون وبما يقدر عليه من المنظف لكن لباس التقوى كثير من الناس لا يهتم به يتنظف أو يتسخ لا يهتم به مع أن هذا كما قال الله عز وجل هو الخير وهو إشارة إلى أنه يحب الاعتناء بلباس التقوى أكثر مما يجب الاعتناء بلباس البدن الظاهر الحسي لأن لباس التقوى أهم وهنا قال: { ذلك خير } ولم يقل: ولباس التقوى هو خير لأن اسم إشارة وجيء بها للبعيد إشارة إلي علو مرتبة هذا اللباس كما قال تعالى: { آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه } ولم يقل هذا الكتاب إشارة إلى علو مرتبة القرآن كذلك قوله { ذلك خير } إشارة إلى علو مرتبة لباس التقوى فينبغي للإنسان أن يعتني بهذا اللباس بأن يتقي الله عز وجل وأن يفكر دائما في سيئاته ومعاصيه وتنظيف السيئات والمعاصي أسهل من تنظيف الثياب الظاهرة الثياب الظاهرة تحتاج إلى عمل وتعب وأجرة وتحضير ماء ومنظف لكن الأمر سهل جدا { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } بالاستغفار والتوبة يمحي كل ما سلف نسأل الله تعالى أن يتوب علينا بمنه وكرمه
وقال تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ }
779 - وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
780 - وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم رواه النسائي والحاكم وقال حديث صحيح
781 - وعن البراء رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا ولقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه متفق عليه
الشَّرْحُ
وذكر المؤلف رحمه الله آية أخرى وهي قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ السرابيل: هي الدروع يعني مثل لباسنا هذا يسمى سرابيل: القمص والدروع وشبهها { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } أما السرابيل التي تقينا البأس فهي سرابيل الحديد الدروع من الحديد كانوا في السابق يلبسونها عند الحرب والقتال لأنها تقي الإنسان السهام الواردة إليه فإنها عبارة عن حلق من حديد منسوج كما قال الله تعالى وهو يعلم داود: { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } فيصفون هذه الدروع بأنها إذا لبسها الإنسان وجاءته السهام أو الرماح أو السيوف ضربت على هذا الحديث ورقته الشر أما قوله: { سرابيل تقيكم الحر } فهي الثياب من القطن وشبهها تقي الحر وقد يقول قائل: لماذا لم يقل تقيكم البرد ؟ أجاب العلماء عن ذلك بأن هذا على تقدير شيء محذوف أي تقيكم الحر وتقيكم البرد لكنه ذكر الحر لأن السورة مكية نزلت في مكة وأهل مكة ليس عندهم برد فذكر الله منته عليهم بهذه السرابيل التي تقي الحر وقيل: إنه ليس في الآية شيء محذوف وأن الدروع التي تقي البأس تقي الإنسان حر السهام ونحوها والسرابيل الخفيفة تقي الحر الجوي وذلك أن الإنسان في الجو الحار لو لم يكن عليه سرابيل تقيه الحر للفحه الحر واسود جلده وتأذي وجف ولكن الله سبحانه وتعالى جعل السرابيل التي تقي الحر من نعمته تبارك وتعالى ثم ذكر حديث ابن عباس رضى الله عنهما وحديث سمرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على لبس الثياب البيض وقال إنها من خير ثيابكم وقال: كفنوا فيها موتاكم وصدق النبي عليه الصلاة والسلام فإن الثوب الأبيض خير من غيره من جهة الإضاءة والنور ومن جهة أنه إذا اتساخ أدنى اتساخ ظهر فيه فبادر الإنسان إلى غسله أما الثياب الأخرى فربما تتراكم فيها الأوساخ والإنسان لا يشعر بها ولا يغسلها وإذا غسلها فلا يدري هل تنظف أم لا ؟ فلهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام إنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم وهو شامل للبس الثياب البيض القمص والأزر والسراويل كلها ينبغي أن تكون من البياض فإنه أفضل ولكن لو أنه لبس من لون آخر فلا بأس بشرط ألا يكون مما يختص لبسه بالنساء فإن كان مما يختص لبسه بالنساء فإنه لا يجوز أن يلبسه الرجل لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء وكذلك بشرط ألا يكون أحمر لأن الأحمر قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أحمر خالصا فإن كان أحمر وفيه أبيض فلا بأس وعلى هذا يحمل الحديث الثالث الذي ذكره المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مربوعا وأنه كان عليه حلة حمراء هذه الحلة الحمراء ليس معناها أنها كلها حمراء لكن معناها أن أعلامها حمر مثل ما تقول الشماغ أحمر وليس هو كله أحمر بل فيه بياض كثير لكن نقطه ووشمه الذي فيه أحمر كذلك الحلة الحمراء يعني أن أعلامها حمر أما أن يلبس الرجل أحمرا خالصا ليس فيه شيء من البياض فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك
782 - وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله رضى الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح ونائل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعلية حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه فتوضأ وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينا وشمالا حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ركزت له عنزة فتقدم فصلى يمر بين يديه الكلب والحمار لا يمنع متفق عليه العنزة بفتح النون نحو العكازة