باب فضل قيام الليل
قال الله تعالى: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } وقال تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } وقال تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل قيام الليل، ثم ذكر قول الله تبارك وتعالى: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } وسبق الكلام على هذه الآية، ثم ذكر قول الله تبارك وتعالى { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } هذا في سياق قوله تعالى: { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } فوصفهم الله عز وجل بهذه الأوصاف الجليلة: إذا ذكروا بآيات الله خروا سجدا، أي خروا سجدا فيما يتطلب السجود فلا يستكبرون عن وضع جباههم وأنوفهم على الأرض بل يتذللون لله إذا أمر بالسجود سجدوا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: { خروا سجدا } أي: أن المراد بذلك كمال التذلل لله بالعبادة، سواء كان سجدة أو غيرها، { وسبحوا بحمد ربهم } أي: سبحوا الله سبحانه وتعالى، وتسبيح الله يعني: تنزيهه عن كل نقص وعيب، هذا هو التسبيح، سبحت الله يعني نزهته وبرأته من كل نقص وعيب، لأنه جل وعلا كامل الصفات، إذ ينتفى عنه جميع النقائص .
وقوله: { بحمد ربهم } الباء للمصاحبة، أي سبحوا الله تسبيحا مقرونا بالحمد مصاحبا به .
والحمد هو: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
هذا معنى الحمد، حمدت الله يعني: اعتقدت أن له أوصافا كاملة، وذكرت بلساني ذلك، فإن كرر المدح صار ثناء، كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي { وهم لا يستكبرون } يعني: لا يستكبرون عن عبادة الله، إذا أمرهم الله امتثلوا الأمر بذل وخضوع، وشعور بالعبودية، وشعور بكمال الألوهية والربوبية لله عز وجل .
{ تتجافى } أي: تتباعد جنوبهم، عن المضاجع، أي: عن المراقد فهم يحيون الليل بالصلاة وذكر الله عز وجل، وإذا أتموا صلاتهم ختموا ذلك بالاستغفار، كما قال تعالى: { وبالأسحار هم يستغفرون } & قال بعض السلف: هذا يدل على كمال معرفتهم بأنفسهم، يقومون الليل، ثم يستغفرون في آخر الليل خوفا من أن يكونوا قصروا مع الله عز وجل .
{ يدعون ربهم خوفا وطمعا } يدعون الله دعاء المسألة، ودعاء العبادة .
دعاء المسألة أن يقولوا: يا ربنا اغفر لنا، يا ربنا أغننا، يا ربنا يسر أمورنا، يا ربنا اشرح صدورنا هذا دعاء المسألة .
أما دعاء العبادة أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويحجوا البيت، ويبروا الوالدين، ويصلوا الأرحام إلى غير ذلك من العبادات، وكانت العبادة دعاء لأنك لو سألت العبد: لأي شيء تعبد الله ؟ لقال: لنيل رضوان الله عز وجل فهو داع بلسان الحال وقد يصحبه دعاء بلسان المقال، فالصلاة مثلا فيها دعاء، يدعو الإنسان فيها بدعاء ركن في الصلاة، إذا لم تدع في الصلاة بهذا الدعاء بطلت صلاتك، في أي موضع ؟ ! في الفاتحة { اهدنا الصراط المستقيم } هذا دعاء ركن في العبادة لو تركته ما صحت صلاتك، فالصلاة دعاء بلسان الحال ودعاء بلسان المقال، ولهذا قال: { يدعون ربهم } أي: يعبدونه ويسألونه .
{ خوفا وطمعا } خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه، لأنهم إن فعلوا المحرم عوقبوا، وإن تركوا المحرم وقاموا بالواجب أثيبوا، فهم خائفون طامعون، وقيل: خوفا من ذنوبهم وطمعا في فضل الله، فالإنسان إذا نظر إلى نفسه وإلى ذنوبه خاف، لأنها ذنوب أثقل من الجبال، وأكثر من الرمال نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه وإن نظر إلى سعة رحمة الله وسعة عفوه، وأن العفو أحب إليه من العقوبة، وأنه يفرح بتوبة عبده المؤمن، أشد من أي فرح في الدنيا كلها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: لله أشد فرحا اللام هذه للابتداء، وهي للتوكيد، لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم كان معه راحلته عليها طعامه وشرابه فأضلت ضاعت منه في أرض فلاة ما حوله أحد، فضاعت، طلبها فلم يجدها، فيئس من الحياة، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، ما بقي إلا أن يموت، فإذا بخطام الناقة متعلقا بالشجرة خطام يعني: زمام فقام وأخذه وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك هو يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك لكن من شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك , فالله جل وعلا أشد فرحا بتوبة عبده من هذا الرجل براحلته .
إذا نحن نطمع في فضل الله، ذنوبنا كثيرة عظيمة، لكن فضل الله أوسع، ورحمته أوسع، إذا كانت الصلوات الخمس تكفر ما بينها إذا لم ترتكب الكبائر فهذا فضل عظيم، فعلى كل حال، هم يدعون الله خوفا وطمعا، خوفا من عذابه، وطمعا في ثوابه، خوفا من ذنوبهم، وطمعا في فضله، كل الأوجه صحيحة .
{ ومما رزقناهم ينفقون } من: للتبعيض يعني: ينفقون بعض ما رزقناهم، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يتصدق بكل ماله، ولهذا لما قال أبو لبابة يا رسول الله إني أتصدق بكل مالي .
قال: يكفيك الثلث، تصدق بالثلث حتى إن العلماء قالوا: إذا نذر الصدقة بماله كله أجزأه ثلثه، لأن هذا هو المذكور فعلى هذا تكون ( من ) للتبعيض، يعني: ينفقون شيئا مما رزقناهم .
وقيل: إن ( من ) للبيان، لبيان الجنس، فينفقون حسب الحال، قد ينفقون قليلا أو كثيرا، الثلث، أو النصف، أو الكل، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه عندما حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فتصدق أبو بكر بكل ماله، وتصدق عمر بشطر ماله بالنصف قال: الآن أسبق أبا بكر، لأن الصحابة يتسابقون، ليس حسدا ولكن تسابق في الخيرات فلما جاء بنصف ماله وإذا أبو بكر قد تصدق بكل ماله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ماذا تركت لأهلك ؟ قال: تركت لهم الله ورسوله .
قال لعمر: ما تركت ؟ ! قال: تركت النصف، ثم قال عمر: والله لا أسابقه على شيء أبدا بعد اليوم .
لأن أبا بكر رضي الله عنه له سوابق، فضائل لا يلحقه لا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا من دونهم .
المهم أنهم ينفقون مما رزقهم الله .
فما هو الجزاء وما هي الثمرة ؟ ! { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } اللهم اجعلنا منهم يا رب .
لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وذلك في جنات النعيم، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أتظنون أن قول الله تعالى: { فيهما فاكهة ونخل ورمان } أتظنون أن النخل والرمان والفاكهة كالذي في الدنيا ؟ لا والله، ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء، اسم الرمان لكن لا يمكن أن يخطر على بالك، اسم النخل لكن لا يخطر على بالك، اسم الفاكهة لكن ما تخطر على بالك: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء الأبرار الكرام البررة إنه على كل شيء قدير .
قال تعالى: { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون }
1160 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا
الشَّرْحُ
قال المؤلف في كتابه رياض الصالحين باب فضل قيام الليل، وذكر آيات ثلاثا، تكلمنا عن اثنتين منها، فهذه هي الثالثة، وهي قوله تعالى: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون هذه من أوصاف المتقين الذين أعد الله لهم الجنات والعيون، من أوصافهم أنهم كانوا لا يهجعون من الليل إلا قليلا، وذلك أنهم يشتغلون بالقيام والتهجد وقراءة القرآن وغير ذلك .
قال الله تعالى: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } فكانوا يقومون من الليل، ثم إذا فرغوا من القيام رأوا أنهم مقصرون، فجعلوا يستغفرون الله عز وجل، وبالأسحار يستغفرون .
وقال تعالى في سورة آل عمران: { والمستغفرين بالأسحار } أي في آخر الليل .
ثم ذكر الأحاديث في ذلك، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل ويطيل القيام حتى تتفطر قدماه، لأن الدم ينزل فيها، فتتفطر، فقيل: كيف تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الأعمال من شكر نعمة الله سبحانه وتعالى، فدل ذلك على أن الشكر هو القيام بطاعة المنعم، وليس الإنسان إذا قال: أشكر الله .
هذا شكر باللسان، ولكن لا يكفي، لابد من الشكر بالجوارح والقيام بطاعة الله عز وجل، وفي هذا دليل على تحمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للعبادة ومحبته لها، لأنه لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك إلا لمحبة شديدة، ولهذا قال: جعلت قرة عيني في الصلاة فالصلاة أحب الأعمال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد قام معه من الليل من أصحابه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قام معه ذات ليلة فأطال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم القيام قال عبد الله: حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بما هممت يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه .
وهو شاب، أقل سنا من الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك عجز أن يكون كالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ولكن لو قال قائل: هل الأفضل في قراءة الليل أن أطيل القيام، أو أن أطيل السجود والركوع ؟ قلنا: انظر ما هو أصلح لقلبك، قد يكون الإنسان في حال السجود أخشع وأحضر قلبا، وقد يكون في حال القيام يقرأ القرآن ويتدبر القرآن، ويحصل له لطائف من كتاب الله عز وجل ما لا يحصل له في حال السجود، ولكن الأفضل أن يجعل صلاته متناسبة إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا قصر القيام قصر الركوع والسجود، حتى تكون متناسبة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم .
1161- وَعَنْ عليٍّ رَضِيَ اللَّه عنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم طَرقَهُ وَفاطِمَةَ لَيْلاً ، فَقَالَ : « أَلا تُصلِّيَانِ ؟ » متفقٌ عليه .
« طرقَةُ » : أَتَاهُ ليْلا .
1162- وعَن سالمِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضِي اللَّه عَنْهُم ، عَن أَبِيِه : أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ اللَّهِ لَو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ » قالَ سالِمٌ : فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بعْدَ ذلكَ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً . متفقٌ عليه .
1163- وَعن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رضَيَ اللَّه عَنْهُمَا قالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: « يَا عَبْدَ اللَّهِ لا تكن مِثْلَ فُلانٍ : كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ » متفقٌ عليه .
1164-
1164 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح، قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه متفق عليه .