باب فضل السماحة في البيع والشراء والأخذ والعطاء وحسن القضاء والتقاضي وإرجاح المكيال والميزان والنهي عن التطفيف
قال الله تعالى: { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } وقال تعالى: { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم } وقال تعالى: { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس & يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين } .
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل السماحة في البيع والشراء .
البيع والشراء أمران ضروريان لا تقوم حياة بني آدم إلا بهما غالبا وذلك لأن الإنسان قد يحتاج إلى شيء عند غيره فكيف يواصل إليه إن استجداه وقال: هبه لي أذل نفسه وإن استعاره بقي في قلق وإن أخذه غصبا ظلمه فكان من حكمة الله عز وجل أن شرع البيع والشراء لأني أنا ممكن أحتاج دراهم فأبيع ما عندي وأنت محتاج هذا الشيء المعين عندي فتشتريه بالدراهم فكان البيع أمرا ضروريا لحاجة بني آدم .
ولكن من الناس من يبيع بالعدل ومن الناس من يبيع بالظلم ومن الناس من يبيع بالإحسان
فالناس ثلاثة أقسام:
1 - قسم يبيع بالعدل لا يظلم ولا يظلم كما قال تعالى في الذين يتعاملون بالربا وأن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
2 - وقسم يبيع بالجور والظلم كالغشاش والكذاب وما أشبه ذلك .
3 - وقسم يبيع بالفضل والإحسان فيكون سمحا في البيع وفي الشراء إن باع لم يطلب حقه وافيا بل ينزل من الثمن ويمهل في القضاء وإن اشترى لا يهمه أن يزيد عليه الثمن ويبادر بالوفاء فيكون محسنا .
وقد استدل المؤلف رحمه الله على فضل السماحة في البيع والشراء بآيات منها قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } كلمة من خير نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الخيرات من أي جهة وهي مؤكد عمومها بـ ( من ) { من خير } يعني أي خير تفعلونه فإن الله به عليم يعني لا يخفى عليه ولا يفوته عز وجل وسيجازيكم على هذا أفضل مما عملتم لأن الله يجازي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
والمراد بالآية الكريمة المراد بذلك الحث على فعل الخير وأن يعلم الفاعل أنه لن يضيع عليه شيء من فعله فإن الله به عليم وسيجازيه عليه عز وجل أفضل الجزاء ومن الخير السماحة في البيع والشراء وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمتسامحين في البيع والشراء فقال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى فالإنسان كلما كان أسمح في بيعه وشرائه وتأجيره واستئجاره ورهنه وارتهانه وغير ذلك فإنه أفضل وقال الله تعالى عن شعيب أنه قال لقومه: { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أوفوا المكيال: أي ما تبيعونه كيلا والميزان ما تبيعونه وزنا أوفوه ولا تنقصوا منه شيئا .
وهذا دليل على أن الوفاء في العقود مما جاء في الشرائع السماوية السابقة واللاحقة وقال تعالى: { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } .
ويل: كلمة وعيد يتوعد الله عز وجل المطففين الذين هذه صفاتهم إذا اكتالوا على الناس يستوفون يعني إذا كان الحق لهم واكتالوا فإنهم يستوفون حقهم كاملا وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون يعني إذا كان الحق عليهم وكالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون أي يبخسون الكيل والميزان فيظلمون من الوجهين أو يطلبون العدل فيما يتعاملون به ويبخسون فيما يعاملون الناس به وهذا هو المطفف وهذه الآية وإن كانت قد وردت في المكيال والميزان إلا أن العامل حتى الموظف إذا كان يريد أن يعطي راتبه كاملا لكنه يتأخر في الحضور أو يتقدم في الخروج فإنه من المطففين الذي توعدهم الله بالويل لأنه لا فرق بين إنسان يكيل أو يزن للناس وبين إنسان موظف عليه أن يحضر في الساعة الفلانية ولا يخرج إلا في الساعة الفلانية ثم يتأخر في الحضور ويتقدم في الخروج هذا مطفف وهذا المطفف في الوظيفة لو نقص من راتبه ريال واحد من عشرة آلاف لقال لماذا تنقص هذا مطفف يدخل في هذا الوعيد { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } ثم قال تعالى منكرا عليهم { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } يعني هل هؤلاء نسوا يوم الحساب نسوا يوم القيامة الذي ما أقرب منه .
فالإنسان في هذه الدنيا ليس معه ضمان أن يعيش ولا لحظة واحدة يموت الإنسان وهو يتغذى أو يتعشى يموت وهو نائم يموت وهو على مكتبه يموت وهو ذاهب لحاجته أو راجع منها ثم يأتي اليوم العظيم { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } استعظمه الله عز وجل بين أنه عظيم فيدل على عظمه وقد وصف الله هذا اليوم في آيات كثيرة كلها تزعج وتروع وتخوف هؤلاء سوف يتعرضون لعقوبة الله في ذلك اليوم هؤلاء المطففون سيتعرضون لعقوبة الله في ذلك اليوم { يوم يقوم الناس لرب العالمين } يقوم الناس كلهم لرب العالمين من في مشارق الأرض ومغاربها يبعثون على صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر الداعي يسمعهم كلهم لأن الأرض مبسوطة غير كروية يغيب بعض الناس فيها عن بعض بل هي سطح واحد إذا تكلم أحد في أولهم سمعه آخرهم وينفذهم البصر يراهم الرائي بخلاف الدنيا الأرض منعطفة كروية لكن في الآخرة الأرض سطح واحد كما قال تبارك وتعالى: { وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت } تمد كما يمد الجلد هذا اليوم العظيم يقوم الناس فيه لله عز وجل للحساب والمعاقبة ومقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة والشمس من فوقهم بقدر ميل ولا شجرة يستظلون به ولا بناء ولا شيء إلا من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فهذا اليوم العظيم سيجد هؤلاء المطففون عقوبتهم في ذلك اليوم لا فيه ولد ينفع ولا أب ولا أم ولا زوجة ولا أحد لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه فليحذر هؤلاء المطففون وليتقوا الله عز وجل ويؤدوا الحق كاملا وإن زادوا فضلة فهو أفضل ولهم أن يأخذوا حقهم كاملا وإن تسامحوا فهو أفضل والله الموفق .
1367 -
1367 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم قال: أعطوه سنا مثل سنه قالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه قال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء متفق عليه .
1368 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى رواه البخاري .
1369 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه رواه مسلم .
الشَّرْحُ
هذه الأحاديث ذكرها المؤلف النووي رحمه في باب فضل السماحة في البيع والشراء وسبق الكلام على الآيات التي في صدر بها المؤلف & هذا الباب .
أما الأحاديث فمنها حديث أبي هريرة أن أعرابيا جاء يتقاضى الرسول صلى الله عليه وسلم حقه يتقاضاه يعني يطلب أن يقضيه النبي صلى الله عليه وسلم حقه وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا يعني ناقة صغيرة فجاء صاحبها يطلبها يقول: أعطني بكري والأعراب كما نعلم عندهم جفاء فأغلظ للرسول صلى الله عليه وسلم القول فهم به الصحابة يعني هموا به أن يضربوه أو يسكتوه أو ما أشبه ذلك فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا صلوات الله وسلامه عليه ما ظنكم لو تكلم مثل هذا الأعرابي على جندي من الجنود ماذا يفعل به يبطش به أو على أمير من الأمراء أو على قاض من القضاة أو على وزير من الوزراء لو جاء يطلب حقه ولو بسهولة ربما يفتك به إلا من شاء الله هذا يغلظ القول لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان عليه حق لشخص وكان الشخص جاء يطلبه فلصاحب الحق أن يغلظ له القول لأنه صاحب حق والرسول صلى الله عليه وسلم سيوفيه لا شك لكن قد لا يكون عنده تلك الساعة شيء ولذلك أمرهم بقضاء بكره فقالوا: إنا لا نجد إلا سنا خيرا من سنة وفي رواية قالوا: لا نجد إلا رباعيا خيارا والرباعي أحسن بكثير من البكر البكر صغير والرباعية كبيرة تتحمل الحمل والأثقال وغير ذلك فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطوه إياها وقال: إن خيركم أحسنكم قضاء في صفة القضاء وفي معاملة المستقضي الذي يطلب حقه فينبغي للإنسان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن القضاء لكن معاملة المستقضي الذي يطلب حقه أي لا يعامله بالجفاء والسب والشتم بل باللين لأن له حقا ومقالة ولا في المقضي يعني يقضي أحسن مما عليه سواء كان أحسن مما عليه كيفية أو أكثر مما يطلب فمثلا إذا استقرضت من شخص مائة ريال وعند الوفاء أعطيته مائة وعشرة بدون شرط فإن هذا لا بأس به وهو من خير القضاء وكذلك لو استقرضت منه صاعا من الطعام وسطا ليس بالطيب ولا بالرديء فأعطيته صاعا طيبا فهذا أيضا من حسن القضاء وخير الناس أحسنهم قضاء وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع قال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى وكذلك سمحا إذا قضى فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله امرءا أو قال رجلا هذا خبر بمعنى الدعاء يعني يدعو له بالرحمة إذا كان سمحا في هذه المواضع الأربعة سمحا إذا باع لا يشتد على المشتري ويكون سهلا يواضعه ويضع عنه سمحا إذا قضى إذا قضى غيره كان سمحا يعطيه في وقته ولا يماطل كذلك سمحا إذا اشترى وكذلك سمحا إذا اقتضى إذا أخذ حقه فهذه الأحوال الأربعة ينبغي للإنسان أن يكون سمحا فيها حتى ينال دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي الكلام إن شاء الله على بقية الأحاديث .
1370 -