باب تحريم الشفاعة في الحدود
قال الله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }
1770 - وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فاختطب ثم قال إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها متفق عليه وفي رواية فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتشفع في حد من حدود الله قال أسامة استغفر لي يا رسول الله قال ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تغليظ تحريم إباق العبد العبد يعني المملوك وإباقه هربه من سيده وذلك أن العبد مملوك للسيد في ذاته ومنافعه فإذا هرب فقد فوت على سيده ذلك وقد ورد الوعيد في هذا بأنه يكون كافرا وأن الذمة بريئة منه وأنه لا تقبل صلاته فهذه ثلاث عقوبات والعياذ بالله الأولى أنه برئت منه الذمة كما في حديث جرير رضي الله عنه الثانية أنه كافر ولكنه ليس كفرا مخرجا عن الملة الثالثة أنه لا تقبل صلاته فالعبد إذا أبق وهرب من سيده ثم صلى فلا صلاة له واختلف العلماء رحمهم الله هل صلاته غير مقبولة لا الفريضة ولا النافلة أو أنها النافلة فقط فمن العلماء من قال صلاة الفريضة مقبولة لأن زمنها مستثنى شرعا ولأنه سوف يصلي سواء كان عند سيده أو أبقا منه ومنهم من قال إن الحديث عام ولا يمتنع أن يعاقب بذلك ويكون المراد بنفي القبول بالنسبة للنوافل نفي الصحة وبالنسبة للفرائض نفي الإثابة وهذا جمع حسن
أما الباب الثاني فهو تحريم الشفاعة في الحد أي في العقوبة المقدرة شرعا واعلم أن العقوبات على الذنوب تنقسم إلى قسمين عقوبات أخروية هذه أمرها إلى الله وقال الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكل ذنب سوى الشرك فإنه قابل أن يغفره الله عز وجل بفضله ورحمته وأما العقوبة الدنيوية فهي أقسام كثيرة منها أقسام معينة محددة في الشريعة فهذه لا يجوز تعديها فمثلا السارق تقطع يده ولا يجوز أن تقطع رجله مع يده ولا أن تقلع عينه ولا أن تفجر أذنه لا يجوز أن يتعدى فيها ما حده الله ورسوله وهو قطع اليد كذلك أيضا الزنا إذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فحده مائة جلدة وتغريب عام أي طرده من البلد إلى بلد آخر لمدة سنة هذا أيضا لا تجوز الزيادة فيه ولا النقص منه لأنه حد من الحدود ومثل المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا هؤلاء جزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض هناك عقوبات أخرى غير مقدرة هذه يرجع إلى رأي الحاكم يعني القاضي الشرعي أو من له تنظيم وتقنين العقوبات هذه أمرها واسع تارة تكون العقوبة بالمال يغرم الإنسان مالا وتارة تكون العقوبة بالعزل عن منصبه وتارة تكون بالحبس وتارة تكون بالتشهير بأن يعلن اسمه ومخالفته بين الناس وتارة تكون بالتقويم من المجلس حسب ما تقتضيه المصلحة والتأديب وتارة تكون بالجلد فأما العقوبات المحددة فإنه إذا بلغت السلطان فلا يجوز لأحد أن يشفع فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع له لعن طرد وإبعاد عن رحمة الله وقال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره والعياذ بالله وإن لم تصل إلى الحاكم فهنا قد يجوز الشفاعة والتوسط مثل لو أن أحد رأى شخصا يزني وشاهده وعنده أربع شهود على ذلك ورأى أن من المصلحة أن يستتاب هذا الرجل فإذا تاب ستر عليه فلا بأس أما بعد أن تبلغ السلطان فلا يجوز ثم ذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها في باب تحريم الشفاعة في الحدود في قصة المرأة المخزومية
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله باب تحريم الشفاعة في الحدود والحدود هي العقوبات التي قدرها الله ورسوله على فاعل المعصية فمنها حد الزنا ومنها حد القذف وحد السرقة وحد الحرابة وأما القتل بالردة فليس من الحدود لأن المرتد إذا تاب ولو بعد أن رفع إلى السلطان فإنه يسقط عنه القتل لكن هذه الحدود لابد منها ولا تسقط إلا إذا تاب الإنسان قبل أن يقدر عليه لقول الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم وذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة من بني مخزوم سرقت وقد بينت السرقة بأنها تستعير المتاع وتجحده يعني تأتي إلى الناس وتقول أعرني القدر أعرني الدلو فيعيرونها إحسانا إليهم ثم تجحد العارية وتقول ما أعرتموني فجعل النبي صلى الله عليه وسلم جحد العارية في منزلة السرقة لأن السارق يدخل البيوت في خفية ويأخذ وهذه سرقت أموال الناس في خفية أخذتها منهم على أنها عارية وأنها إحسان من أهلها أي من أهل الأموال ثم تجحد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها وكانت من بني مخزوم من أشرف قبائل قريش فأهمهم ذلك أي لحقهم الهم في هذا كيف تقطع يد المخزومية فطلبوا من يشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ولم يذكروا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا من هو أعلى قدرا من أسامة بن زيد فإما أن يكونوا قد حاولوا ذلك ولم يفلحوا وإما أن يكونوا من الأصل علموا أنهم لن يشفعوا في حد من حدود الله المهم أنهم طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه وأسامة هو أسامة بن زيد بن حارثة وزيد بن حارثة كان عبدا مملوكا وهبته خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وكان يحبه ويحب ابنه أسامة تكلم أسامة مع النبي في شأن المرأة لعله يرفع عنها القطع فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير لونه وقال له منكرا عليه أتشفع في حد من حدود الله يعني ما كان ينبغي أن تشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب أي خطب خطبة بليغة لأن اختطب أبلغ من خطب لزيادة الهمزة والتاء وقد قال علماء اللغة العربية إن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى يعني زيادة الحروف في الكلمة تدل على زيادة معناها المهم أن قوله اختطب يعني خطب خطبة بلغية ثم قال إنما أهلك من كان قبلكم يعني من الأمم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليهم الحد أهلكهم يعني بذنوبهم بالعذاب والعقوبات إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد فصارت إقامتهم لحدود الله على حسب أهوائهم وفي هذا دليل على أن من سبقنا كانوا يسرقون وأن السرقة كبيرة فيهم بين الغني والفقير والشريف والضعيف ثم أقسم عليه الصلاة والسلام وهو البار الصادق بدون قسم أقسم قال وايم الله أي أحلف بالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها اللهم صلي وسلم عليه هكذا العدالة وهكذا تنفذ حكم الله لا اتباع الهوى أقسم بأن فاطمة بنت محمد وهي أشرف من المخزومية حسبا ونسبا لأنها رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة أقسم أنها لو سرقت لقطع يدها وفي قوله لقطعت يدها قولان القول الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يباشر القطع وهذا أبلغ الثاني أنه يأمر من يقطع يدها وأيا كان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدرأ الحد عن أحد لشرفه ومكانته أبدا الحد حق الله عز وجل وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يد المرأة المخزومية فقطعت وهي امرأة من أشراف قريش ومع ذلك لم يسقط عنها الحد وهكذا يجب على ولاة الأمر أن يكون الناس عندهم سواء في إقامة الحدود وألا يحابوا أحدا لقربه أو لغناه أو لشرفه في قبيلته أو غير ذلك الحد لله عز وجل تجب إقامته لله عز وجل انظر إلى قوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } ومن الرأفة الشفاعة لهم لا تشفع لأحد في حد أقمه ولا ترفق به ولا ترحمه ولا تقل هذا شريف هذا ضعيف هذا أبو أولاد أبدا لا يهمك يعني لو زنى إنسان وهو محصن وثبت عليه الحد وله أولاد صغار وزوجات سوف يكن أرمل بعده والأولاد أيتاما بعده لا تبالي بهذا أقم الحد عليه ارجمه حتى يموت ولا تقل هذا له أولاد صغار وزوجات لا يهمك هذا أقم الحد على كل من أتى بمعصية توجب الحد ولما كانت الأمة الإسلامية على هذه العدالة وعدم المبالاة وأنها لا تأخذها في الله لومة لائم كان لها العزة والقوة والنصر المبين ولما تخلت الأمة الإسلامية عن إقامة حدود الله وصارت المحسوبيات والوساطات تعمل عملها في إسقاط حدود الله عز وجل تدهورت الأمة الإسلامية إلى الحد الذي ترونه الآن، فنسأل الله تعالى أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها وتمسكها بدينها إنه على كل شيء قدير
باب النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها
قال الله تعالى { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا }
1771 -