( الفهرس )
شرح الأربعين النووية
الحديث السادس والثلاثون
عَنْ أَبي هُرَيرَة رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: )مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كرَبِ يَوم القيامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ على مُعسرٍ يَسَّرَ الله عَلَيهِ في الدُّنيَا والآخِرَة، وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ الله في الدُّنيَا وَالآخِرَة، وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَريقَاً يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طَريقَاً إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ يَتلونَ كِتابِ اللهِ وَيتَدارَسونهَ بَينَهُم إِلا نَزَلَت عَلَيهُم السَّكينَة وَغَشيَتهم الرَّحمَة وحَفَتهُمُ المَلائِكة وَذَكَرهُم اللهُ فيمَن عِندَهُ،وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ[250](رواه مسلم بهذا اللفظ
الشرح
قوله: "مَنْ نَفسَ" أي وسع.
"عَنْ مُؤمِنٍ كُربَةً" الكربة ما يكرب الإنسان ويغتم منه ويتضايق منه.
"مِنْ كُربِ الدنيَا" أي من الكرب التي تكون في الدنيا وإن كانت من مسائل الدين،لأن الإنسان قد تصيبه كربة من كرب الدين فينفس عنه.
"نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القيامَة" الجزاء من جنس العمل من حيث الجنس،تنفيس وتنفيس،لكن من حيث النوع يختلف اختلافاً عظيماً،فكرب الدنيا لا تساوي شيئاً بالنسبة لكرب الآخرة،فإذا نفس الله عن الإنسان كربة من كرب الآخرة كان ثوابه أعظم من عمله.
وقوله: "يَومِ القيامَة" هو الذي تقوم فيه الساعة، وسمي بذلك لثلاثة أمور:
الأول:أن الناس يقومون فيه من قبورهم لله عزّ وجل،قال الله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6)
الثاني:أنه تقام فيه الأشهاد،كما قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)
الثالث:أنه يقام فيه العدل،لقول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)(الانبياء: الآية47)
"وَمَنْ يَسَّرَ" أي سهل.
"عَلَى مُعسَر" أي ذي إعسار كما قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة)(البقرة: الآية280)
"يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَة" ويشمل هذا التيسير تيسير المال،وتيسير الأعمال، وتيسير التعليم وغير ذلك،أي نوع من أنواع التيسير.
وهنا ذكر الجزاء في موضعين:
الأول:في الدنيا، والثاني:في الآخرة.
"وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً" أي أخفى وغطى،ومنه الستارة تخفي الشيء وتغطيه، والمقصود ستر مسلماً ارتكب ما يعاب. إما في المروءة والخلق ،وإما في الدين والعمل، "سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَة" .
"وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ" يعني أنك إذا أعنت أخاك كان الله في عونك كما كنت تعين أخاك.
ويرويه بعض العوام: ما دام العبد في عون أخيه وهذا غلط، لأنك إذا قلت ما دام العبد في عون أخيه صار عون الله لا يتحقق إلا عند دوام عون الأخ، ولم يُفهم منه أن عون الله للعبد كعونه لأخيه،فإذا قال: ما دام العبد في عون أخيه عُلم أن عون الله عزّ وجل كعون الإنسان لأخيه.
وما دام هذا اللفظ هو اللفظ النبوي فلا يعدل عنه.
"وَمَنْ سَلَكَ طَريقَاً" أي دخله ومشى فيه.
"يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً" أي يطلب علماً.
"سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَريقَاً إِلَى الجَنَّةِ" يعني سهل الله له هداية التوفيق بالطريق إلى الجنة، والمراد بالعلم هنا علم الشريعة وما يسانده من علوم العربية والتاريخ وما أشبه ذلك.
أما العلوم الدنيوية المحضة كالهندسة وشبهها فلا تدخل في هذا الحديث، لكن هل هي مطلوبة أو لا؟
يأتي إن شاء الله في الفوائد.
والجنة: هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه المتقين،فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأوصافها وأوصاف ما فيها من النعيم موجود في الكتاب والسنة بكثرة.
"وَمَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ" ما : نافية بدليل أنها جاء بعدها إلا المثبتة.
وبيوت الله هي المساجد، فإن المساجد هي بيوت الله عزّ وجل،كما قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37،36].
"يَتلونَ كِتَابَ الله" أي يقرؤونه لفظاً ومعنى.
أما اللفظ فظاهر،وأما المعنى : فالبحث في معاني القرآن.
"وَيَتَدَارَسونَهُ بَينَهُم" أي يدرس بعضهم على بعض هذا القرآن.
"إِلا نَزَلَت عَلَيهم السَّكينَة" أي طمأنينة القلب،وانشراح الصدر.
"وَغَشيَتهم الرَّحمَة" أي غطتهم، والرحمة هنا يعني رحمة الله عزّ وجل.
"وَحَفَّتهُم المَلائِكة" أي أحاطت بهم إكراماً لهم.
"وَذكرهُم اللهُ فيمَن عِنده" أي أن هؤلاء القوم الذين اجتمعوا في المسجد يتدارسون كلام الله عزّ وجل يذكرهم الله فيمن عنده،وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"[251] فإذا ذكرت الله في ملأ بقراءة القرآن أو غيره فإن الله تعالى يذكرك عند ملأ خير من الملأ الذي أنت فيهم.
وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرع بِهِ نَسَبُهُ بطأ: بمعنى أخَّر، والمعنى: من أخره العمل لم ينفعه النسب،لقوله تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات: الآية13)
من فوائد هذا الحديث:
1-الحث على تنفيس الكرب عن المؤمنين، لقوله: "مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوم القيامَةِ".
وهذا يشمل : كُرَب المال ، وكرب البدن، وكرب الحرب وغيرها فكل كربة تنفس بها عن المؤمن فهي داخلة في هذا الحديث.
.2أن الجزاء من جنس العمل،تنفيس بتنفيس،وهذا من كمال عدل الله عزّ وجل ولكن يختلف النوع، لأن الثواب أعظم من العمل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
.3إثبات يوم القيامة، لقوله: "نَفّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوم القيامَةِ".
.4أن في يوم القيامة كرباً عظيمة، لكن مع هذا والحمد لله هي على المسلم يسيرة،لقول الله تعالى: ( وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً)(الفرقان: الآية26) وقال الله عزّ وجل: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (المدثر:10) وقال عزّ وجل
يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر:8] أما المؤمن فإن الله عزّ وجل ييسره عليه ويخففه عنه والناس درجات، حتى المؤمنون يختلف يسر هذا اليوم بالنسبة إليهم حسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح.
.5الحث على التيسير على المعسر،وأنه ييسر عليه في الدنيا والآخرة.
والمعسر تارة يكون معسراً بحق خاص لك،وتارة يكون معسراً بحق لغيرك،والحديث يشمل الأمرين: "مَنْ يَسّرَ على مُعسَرٍ يَسّرَ الله عَلَيهِ" .
لكن إذا كان الحق لك فالتيسير واجب، وإن كان لغيرك فالتيسير مستحب،مثال ذلك:رجل يطلب شخصاً ألف ريال،والشخص معسر،فهنا يجب التيسير عليه لقول الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة)[البقرة:280] ولا يجوز أن تطلبه منه ولا أن تعرض بذلك، ولا أن تطالبه عند القاضي لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة)(البقرة: الآية280) ومن هنا نعرف خطأ أولئك القوم الذين يطلبون المعسرين ويرفعونهم للقضاء ويطالبون بحبسهم، وأن هؤلاء- والعياذ بالله - قد عصوا الله عزّ وجل ورسوله فإن الله تعالى يقول: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) .
فإن قال قائل: ما أكثر أهل الباطل في الوقت الحاضر الذين يدعون الإعسار وليسوا بمعسرين، فصاحب الحق لايثق بادعائهم الإعسار؟
فنقول:نعم، الأمانات اليوم اختلفت لا شك، وقد يدعي الإعسار من ليس بمعسر، وقد يأتي بالشهود على أنه معسر،لكن أنت إذا تحققت أو غلب على ظنك أنه معسر وجب عليك الكف عن طلبه ومطالبته.
أما إذا علمت أن الرجل صاحب حيلة وأنه موسر لكن ادعى الإعسار من أجل أن يماطل بحقك فهنا لك الحق أن تطلب وتطالب، هذا بالنسبة للمعسر بحق لك.
أما إذا كان معسراً بحق لغيرك فإن التيسير عليه سنة وليس بواجب،اللهم إلا أن تخشى أن يُساء إلى هذا الرجل المعسر ويحبس بغير حق وما أشبه ذلك،فهنا قد نقول بوجوب إنقاذه من ذلك، ويكون هذا واجباً عليك مادمت قادراً.
.6أن التيسير على المعسر فيه أجران: أجر في الدنيا وأجر في الآخرة.
فإن قال قائل: لماذا لم يذكر الدنيا في الأول: "مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُنيَا نَفّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوم القيامَةِ" فقط؟
قلنا : الفرق ظاهر، لأن من نفس الكربة أزالها فقط،لكن الميسر على المعسر فيه زيادة عمل وهو التيسير، وفرق بين من يرفع الضرر ومن يحدث الخير.
فالميسر محدث للخير وجالب للتيسير، والمفرج للكربة رافع للكربة فقط، هذا والله أعلم وجه كون الأول لا يجازى إلا في الآخرة، والثاني يجازى في الدنيا والآخرة.
.7الحث على الستر على المسلم لقوله: "وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ الله في الدُّنيَا وَالآخِرَة".
ولكن دلت النصوص على أن هذا مقيد بما إذا كان الستر خيراً، والستر ثلاثة أقسام:
القسم الأول:أن يكون خيراً.
والقسم الثاني: أن يكون شراً.
والقسم الثالث:لا يدرى أيكون خيراً أم شراً.
أما إذا كان خيراً فالستر محمود ومطلوب.
مثاله:رأيت رجلاً صاحب خلق ودين وهيئة- أي صاحب سمعة حسنة - فرأيته في خطأ وتعلم أن هذا الرجل قد أتى الخطأ قضاءً وقدراً وأنه نادم، فمثل هذا ستره محمود ، وستره خير .
الثاني: إذا كان الستر ضرراً: كالرجل وجدته على معصية،أو على عدوان على الناس وإذا سترته لم يزدد إلا شراً وطغياناً، فهنا ستره مذموم ويجب أن يكشف أمره لمن يقوم بتأديبه، إن كانت زوجة فترفع إلى زوجها، وإن كان ولداً فيرفع إلى أبيه،وإن كان مدرساً يرفع إلى مدير المدرسة، وهلم جرا.
المهم: أن مثل هذا لا يستر ويرفع إلى من يؤدبه على أي وجه كان،لأن مثل هذا إذا ستر- نسأل الله السلامة- ذهب يفعل ما فعل ولم يبال.
الثالث:أن لا تعلم هل ستره خير أم كشفه هو الخير:فالأصل أن الستر خير،ولهذا يذكر في الأثر( لأن أخطىء في العفو أحب إليّ من أن أخطىء في العقوبة)[252] فعلى هذا نقول: إذا ترددت هل الستر خير أم بيان أمره خير، فالستر أولى، ولكن في هذه الحال تتبع أمره، لا تهمله، لأنه ربما يتبين بعد ذلك أن هذا الرجل ليس أهلاً للستر.
.8أن الله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه،ففيه الحث على عون إخوانه من المسلمين في كل ما يحتاجون إلى العون فيه حتى في تقديم نعليه له إذا كان يشق على صاحب النعلين أن يقدمهما،وحتى في إركابه السيارة، وحتى في إدناء فراشه له إذا كان في بَرٍّ أو ما أشبه ذلك.
فباب المعونة واسع، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
.9علم الله عزّ وجل بأمور الخلق وأنه يعلم من نفس عن مؤمن كربة، ومن يسر على معسر، ومن ستر مسلماً، ومن أعان مسلماً ، فالله تعالى عليم بذلك كله.
.10بيان كمال عدل الله عزّ وجل، لأنه جعل الجزاء من جنس العمل، وليتنا نتأدب بهذا الحديث ونحرص على تفريج الكربات وعلى التيسير على المعسر،وعلى ستر من يستحق الستر،وعلى معونة من يحتاج إلى معونة، لأن هذه الآداب ليس المراد بها مجرد أن ننظر فيها وأن نعرفها، بل المراد أن نتخلق بها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ساقها من أجل أن نتخلق بها، لا يريد منا أن نعلمها فقط، بل يريد أن نتخلق بها ولذلك كان سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين - رحمهم الله - يتخلقون بالأخلاق التي يعلمهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
.11الحث على معونة أخيك المسلم، ولكن هذا مقيد بما إذا كان على بر وتقوى،لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: الآية2) أما على غير البر والتقوى فينظر:
إن كان على إثم فحرام،لقوله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: الآية2)
وإن كان على شيء مباح فإن كان فيه مصلحة للمعان فهذا من الإحسان،وهو داخل في عموم قول الله تعالى: ( وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:93] وإن لم يكن فيه مصلحة للمعان فإن معونته إياه أن ينصحه عنه، وأن يقول: تجنب هذا، ولا خير لك فيه.
.12أن الجزاء من جنس العمل، بل الجزاء أفضل، لأنك إذا أعنت أخاك كان الله في عونك، وإذا كان الله في عونك كان الجزاء أكبر من العمل.
.13الحث على سلوك الطرق الموصلة للعلم،وذلك بالترغيب فيما ذكر من ثوابه.
.14الإشارة إلى النية الخالصة، لقوله : "يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً" أي يطلب العلم للعلم،فإن كان طلبه رياءً وهو مما يبتغى به وجه الله عزّ وجل كان ذلك إثماً عليه.
وما ذكر عن بعض العلماء من قولهم: ( طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ) فمرادهم أنهم في أول طلبهم لم يستحضروا نية كونه لله عزّ وجل ثم فتح الله عليهم ولا يظهر أنهم أرادوا أنهم طلبوا العلم رياءً، لأن هذا بعيد لا سيما في الصدر الأول.
.15إطلاق الطريق الموصل للعلم، فيشمل الطريق الحسي الذي تطرقه الأقدام، والطريق المعنوي الذي تدركه الأفهام.
الطريق الحسي الذي تطرقه الأقدام: مثل أن يأتي الإنسان من بيته إلى مدرسته، أو من بيته إلى مسجده، أو من بيته إلى حلقة علم في أي مكان.
أما الذي تدركه الأفهام: فمثل أن يتلقى العلم من أهل العلم، أو يطالع الكتب،أوأن يستمع إلى الأشرطة وما أشبه ذلك.
.16أن الجزاء من جنس العمل، فكلما سلك الطريق يلتمس فيه العلم سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.
.17أنه ينبغي الإسراع في إدراك العلم وذلك بالجد والاجتهاد، لأن كل إنسان يحب أن يصل إلى الجنة على وجه السرعة، فإذا كنت تريد هذا فاعمل العمل الذي يوصل إليها بسرعة.
.18أن الأمور بيد الله عزّ وجل، فبيده التسهيل، وبيده ضده، وإذا آمنت بهذا فلا تطلب التسهيل إلا من الله عزّ وجل.
.19الحث على الاجتماع على كتاب الله عزّ وجل، ثم إذا اجتمعوا فلهم ثلاث حالات:
الحال الأولى:أن يقرؤوا جميعاً بفم واحد وصوت واحد، وهذا على سبيل التعليم لا بأس به،كما يقرأ المعلم الآية ثم يتبعه المتعلمون بصوت واحد، وإن كان على سبيل التعبد فبدعة،لأن ذلك لم يؤثر عن الصحابة ولا عن التابعين.
الحال الثانية:أن يجتمع القوم فيقرأ أحدهم وينصت الآخرون، ثم يقرأ الثاني ثم الثالث ثم الرابع وهلم جراً، وهذا له وجهان:
الوجه الأول: أن يكرروا المقروء، فيقرأ الأول مثلاً صفحة، ثم يقرأ الثاني نفس الصفحة، ثم الثالث نفس الصفحة وهكذا، وهذا لا بأس به ولا سيما لحفاظ القرآن الذين يريدون تثبيت حفظهم.
الوجه الثاني:أن يقرأ الأول قراءة خاصة به أو مشتركة، ثم يقرأ الثاني غير ما قرأ الأول، وهذا أيضاً لا بأس به.
وكان علماؤنا ومشايخنا يفعلون هذا،فيقرأ مثلاً الأول من البقرة، ويقرأ الثاني الثمن الثاني، ويقرأ الثالث الثمن الثالث وهلم جراً، فيكون أحدهم قارئاً والآخرون مستمعين، والمستمع له حكم القارىء في الثواب، ولهذا قال الله عزّ وجل في قصة موسى وهارون: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا )(يونس: الآية89) والداعي موسىعليه السلام ، كما قال الله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ* قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)[يونس:88-89] قيل:إن موسى يدعو وهارون يؤمن ، ولهذا شرع للإنسان المستمع لقراءة القارىء إذا سجد القارىء أن يسجد.
الحال الثالثة:أن يجتمعوا وكل إنسان يقرأ لنفسه دون أن يستمع له الآخرون، وهذه هو الذي عليه الناس الآن، فتجد الناس في الصف في المسجد كلٌّ يقرأ لنفسه والآخرون لا يستمعون إليه.
20- إضافة المساجد إلى الله تشريفاً لها لأنها محل ذكره وعبادته.
والمضاف إلى الله عزّ وجل إما صفة، وإما عين قائمة بنفسها، وإما وصف في عين قائمة بنفسها.
الأول الذي من صفات الله عزّ وجل كقدرة الله وعزة الله،وحكمة الله وما أشبه ذلك.
الثاني :العين القائمة بنفسها مثل: ناقة الله، مساجد الله، بيت الله، فهذا يكون مخلوقاً من مخلوقات الله عزّ وجل لكن أضافه الله إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً.
الثالث:أن يكون عين قائمة بنفسها ولكنها في عين أخرى مثل: روح الله كما قال الله عزّ وجل: ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )(التحريم: الآية12) وقال في آدم: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )(الحجر: الآية29) فهنا ليس المراد روح الله عزّ وجل نفسه، بل المراد من الأرواح التي خلقها،لكن أضافها إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً.
.21أن رحمة الله عزّ وجل تحيط بهؤلاء المجتمعين على كتاب الله، لقوله: "وَغَشيتهم الرَّحمَةُ" أي أحاطت بهم من كل جانب كالغشاء وهو الغطاء يكون على الإنسان.
.23أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت من بيوت الله،لينالوا بذلك شرف المكان،لأن أفضل البقاع المساجد.
.24تسخير الملائكة لبني آدم، لقوله: "حَفَّتهم المَلائِكة" فإن هذا الحف إكرام لهؤلاء التالين لكتاب الله عزّ وجل.
.25إثبات الملائكة،والملائكة عالم غيبي، كما سبق الكلام عليهم في شرح حديث جبريل عليه السلام.
.26علم الله عزّ وجل بأعمال العباد، لقوله: "وَذَكَرَهُمُ اللهُ فيمَن عِنده" جزاء لذكرهم ربهم عزّ وجل بتلاوة كتابه.
.27أن الله عزّ وجل يجازي العبد بحسب عمله، فإن هؤلاء القوم لما تذاكروا بينهم، وكان كل واحد منهم يسمع الآخر،ذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة تنويهاً بهم ورفعة لذكرهم.
وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: "أَنَا عِند ظَنِّ عَبدي بي، وَأَنَا مَعَهُ،إِذَا ذَكَرَني في نَفسِهِ ذَكَرتهُ في نَفسي،وَإِن ذَكَرَني في مَلأ ذَكَرتهُ في مَلأ خير مِنهُم"[253] .
.28أن النسب لا ينفع صاحبه إذا أخره عن صالح الأعمال لقوله: "مَن بطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ" يعني أخَّره "لَم يُسرِع بِهِ نَسَبُهُُ".
فإن لم يبطىء به العمل وسارع إلى الخير وسبق إليه، فهل يسرع به النسب؟
فالجواب:لا شك أن النسب له تأثير وله ميزة، ولهذا نقول : جنس العرب خير من غيرهم من الأجناس، وبنو هاشم أفضل من غيرهم من قريش،كما جاء في الحديث "إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة،واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم،واصطفاني من بني هاشم"[254] وقال "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا"[255].
فالنسب له تأثير ، لذلك تجد طبائع العرب غير طبائع غيرهم،فهم خير في الفهم، وخير في الجلادة وخير في الشجاعة وخير في العلم ، لكن إذا أبطأ بهم العمل صاروا شراً من غيرهم.
انظر إلى أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كانت أحواله؟
كانت أحواله أن الله تعالى أنزل فيه سورة كاملة (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) [المسد:1-5].
.29أنه ينبغي للإنسان أن لا يغتر بنسبه وأن يهتم بعمله الصالح حتى ينال به الدرجات العلى والله الموفق.
---
[250] أخرجه مسلم – كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (2699)،(38).
[251] أخرجه البخاري – كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، (7405). ومسلم – كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: الحث على ذكر الله تعالى،(2675)، (2).
[252] عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" أخرجه الترمذي - كتاب: الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، (1424). والحاكم في المستدرك – ج4، ص426، كتاب: الحدود،(8163). والدارقطني في سننه – ج3/ص84،(
. ، والبيهقي في سننه الكبرى – ج8،ص238، (16834). ورويت العبارة عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما، ولم أجدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[253] سبق تخريجه صفحة (358)
[254] أخرجه مسلم – كتاب: الفضائل، باب: نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، (2276)،(1).
[255] أخرجه البخاري – كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، (3374). ومسلم – كتاب: الفضائل، باب: من فضائل يوسف عليه السلام، (2378)،(168).