594 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر وما هو ؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه رواه البخاري . نقل الحافظ النووي - رحمه الله - في باب الورع وترك الشبهات عن عائشة رضي الله عنها أن غلاما كان لأبي بكر وكان أبو بكر يخارجه أي يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجا معينا، ويقول: ائت لي كل يوم بكذا وكذا وما زاد فهو لك . وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وائتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم، فإن هذا جائز لأن العبيد ملك السيد فما حصلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم . لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، يذهب في طلب العلم، يبقى مستريحا في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد . أما بالنسبة للعمال الذي يجلبهم الإنسان إلى البلاد ويقول: اذهبوا وعليكم كل شهر كذا وكذا من الدراهم فإن هذا حرام وظلم ومخالف لنظام الدولة والعقد على هذا الوجه باطل، فليس لصاحب العمل شيء مما فرضه على هؤلاء العمال، لأن العامل ربما يكدح ويتعب ولا يحصل ما فرضه عليه كفيله وربما لا يحصل شيئا أبدا، فكان في هذا ظلم . أما العبيد فهم عبيد الإنسان ما لهم وما في أيديهم فهو له هذا الغلام لأبي بكر قد خارجه على شيء معين يأتي به إليه كل يوم، وفي يوم من الأيام قدم هذا الغلام طعاما لأبي بكر فأكله فقال: أتدري ما هذا ؟ قال: وما هو ؟ قال: هذا عوض عن أجرة كهانة تكهنت بها في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، لكني خدعت الرجل فلقيني فأعطاني إياها . وعوض الكهانة حرام، سواء كان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أو لا يحسن لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن حلوان الكاهن . فلما قال لأبي بكر هذه المقالة أدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل ما أكل وأخرجه من بطنه لئلا يتغذى بطنه بحرام وهذا مال حرام لأنه عوض عن حرام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه . فالأجرة على ما فعل الحرام حرام، ومن ذلك تأجير بعض الناس دكاكينهم على الحلاقين الذين يحلقون اللحى، فإن هذه الأجرة حرام ولا تحل لصاحب الدكان لأنه استؤجر منه لعمل محرم . ومن ذلك أيضا تأجير البنوك في المحلات فإن تأجير البنوك حرام لأن البنك معاملته كلها أو غالبها حرام وإذا وجد فيه معاملة حلال فهي خلاف الأصل الذي من أجله أنشئ هذا البنك فالأصل في إنشاء البنوك أنها للربا فإذا أجر الإنسان بيته أو دكانه للبنك فتعامل فيه بالربا فإن الأجرة حرام، ولا تحل لصاحب البيت أو صاحب الدكان . وكذلك من أجر شخصا يبيع المجلات الخليعة أو المحتوية على الأفكار الرديئة ومصادمة الشرع، فإنه لا يجوز تأجير المحلات لمن يبيع هذه المجلات، لأن الله تعالى قال: وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وفي هذا الحديث دليل على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه فهو جدير بهذا لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة لأنه الخليفة الأول . ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد خطب الناس في مرضه وقال: إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبي بكر ثم قال: ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن خلة الإسلام أفضل . والنصوص في هذا كثيرة متواترة حتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب القائل بالصدق وبالقسط والعدل، كان يقول على منبر الكوفة وقد تواتر ذلك عنه: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر هكذا يقول رضي الله عنه وقال: لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري يعني جلد القذف والكذب وهذا تواضعه رضي الله عنه في الحق وقول الصدق . وفيه: رد ظاهر على الروافض الذين يفضلون عليا على أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بل بعضهم يفضل عليا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: علي أفضل من محمد وأحق بالرسالة، ولكن جبريل خان الأمانة وانصرف بالرسالة عن علي إلى محمد، ولا شك أنهم على ضلال بين والعياذ بالله، نسأل الله لنا ولهم الهداية . والحاصل أن أبا بكر رضي الله عنه كان من أهل الورع والزهد والبعد عن المشتبهات ولذلك فقد قاء كل ما في بطنه بعد أن أكله حتى لا يتغذى بطنه على شيء جاء من حرام أو من طريق شبهة .
الشَّرْحُ
595 -