باب في الاقتصاد في الطاعة 14- باب في الاقتصاد في العبادة
باب في الاقتصاد في الطاعة
قال الله تعالى { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } وقال تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
الشَّرْحُ
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - في الباب السابق كثرة طرق الخير بين في هذا الباب أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في الطاعة فقال باب الاقتصاد في الطاعة والاقتصاد هو أن يكون الإنسان وسطا بين الغلو والتفريط لأن هذا هو المطلوب من الإنسان في جميع أحواله أن يكون دائرا في وسط بين الغلو والتفريط قال الله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا .
وهكذا الطاعة ينبغي أن تقتصد فيها بل يجب عليك أن تقتصد فيها فلا تكلف نفسك ما لا تطيق لأن النبي لما بلغه خير الثلاثة الذين قال أحدهم إني لا أتزوج النساء وقال الثاني أصوم ولا أفطر وقال ثالث أقوم ولا أنام خطب عليه الصلاة والسلام وقال ما بال أقوام يقولون كذا وكذا إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن رغب عن سنته وكلف نفسه ما لا تطيق .
ثم استشهد المؤلف بقوله تعالى { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى }، { طه } هذه حرفان من حروف الهجاء أحدهما طاء والثاني هاء وليست اسما من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه بعضهم بل هي من الحروف الهجائية التي ابتدأ بها في بعض السور الكريمة من كتابه العزيز وهي حروف ليس لها معنى لأن القرآن نزل باللغة العربية واللغة العربية لا تجعل للحروف الهجائية معنى بل لا يكون لها معنى إلا إذا ركبت وكانت كلمة .
ولكن لها مغزى عظيم هذا المغزى العظيم هو التحدي الظاهر لهؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم عجزوا أن يأتوا بشيء مثل القرآن لا بسورة ولا بعشر سور ولا بآية ومع هذا فإن هذا القرآن الذي أعجزهم لم يأت بحروف غريبة لم يكونوا يعرفونها بل أتى بالحروف التي يركبون منها كلامهم .
ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدأت بهذه الحروف إلا وجدت بعدها ذكر القرآن في سورة البقرة { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } وفي سورة آل عمران { الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } وفي سورة الأعراف { المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } وفي سورة يونس { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } وهكذا نجد بعد كل حروف هجائية في بداية السورة يأتي ذكر القرآن وذلك إشارة إلى أن هذا القرآن كان من هذه الحروف التي يتركب منها كلام العرب ومع ذلك أعجز العرب هذا هو الصحيح في معنى المراد من هذه الحروف الهجائية .
وقوله - عز وجل - { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } يعني ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن لينال الشقاء به ولكن لينال السعادة والخير والفلاح في الدنيا والآخرة كما قال الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نفسها { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } ولكن لتسعد في الدنيا والآخرة ولهذا لما كانت الأمة الإسلامية أمة القرآن تتمسك به وتهتدي بهديه صارت لها الكرامة والعزة والرفعة على جميع الأمم ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها ولما تخلف عن العمل بهذا القرآن تخلفت عنها من العزة والنصر والكرامة بقدر ما تخلفت به من العمل بهذا القرآن .
ثم ساق المؤلف آية أخرى وهي قول الله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } يعني أن الله يريد بنا فيما شرع لنا التيسير وهذه الآية نزلت في آيات الصيام حتى لا يظن الظان أنه أنزل على الناس للمشقة والتعب فبين الله تعالى أنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر ولهذا من سافر لم يجب عليه الصوم ويقضي من أيام أخر من مرض لم يجب عليه الصوم ويقضي من أيام أخر فهذا من التيسير { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
ولهذا كان هذا الدين الإسلامي - ولله الحمد - دين السماحة واليسر والخير والسهولة أسأل الله أن يرزقني وإياكم التمسك به والوفاة عليه وملاقاة ربنا عليه .