باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر
قال الله تعالى: { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } قال ابن عباس والمحققون: معناه نعمركم ستين سنة ؟ ويؤيده الحديث الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وقيل: معناه ثماني عشرة سنة .
وقيل: أربعين سنة، قاله الحسن والكلبي ومسروق، ونقل عن ابن عباس أيضاً ونقلوا: أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة .
وقيل: هو البلوغ .
وقوله تعالى: { وجاءكم النذير } قال ابن عباس والجمهور: هو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: الشيب .
قاله عكرمة، وابن عيينة، وغيرهما .
والله أعلم .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: ( باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر ) اعلم أن المدار على آخر العمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ولهذا كان من الدعاء المأثور: اللهم اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتمه، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام: أن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة .
فالذي ينبغي للإنسان كلما طال به العمر أن يكثر من الأعمال الصالحة، كما أنه ينبغي للشاب أيضاً أن يكثر من الأعمال الصالحة، لأن الإنسان لا يدري متى يموت، قد يموت في شبابه، وقد يؤخر موته، لكن لا شك أن من تقدم به السن فهو أقرب إلى الموت من الشاب، لأنه أنهى العمر .
ثم ساق المؤلف قول الله تعالى: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ( ما ) نكرة موصوفة، أي: أو لم نعمركم عمراً يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير، وهذا العمر اختلف المفسرون فيه، فقيل: هو ستون سنة، وقيل: ثمانية عشر سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: البلوغ، والآية عامة، عمروا عمراً لهم فيه فرصة يتذكر فيه من يتذكر، وهذا يختلف باختلاف الأحوال .
فقد يكون الإنسان يتذكر في أقل من ثمانية عشر سنة، وقد لا يتذكر إلا بعد ذلك، حسب ما يأتيه من النذر والآيات، وما يكون حوله من البيئة الصالحة، أو غير الصالحة المهم أنه يقال لهم توبيخاً { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } .
وفي هذا: دليل على أنه كلما طال بالإنسان العمر، كان أولى بالتذكر .
وأما قوله تعالى: { وجاءكم النذير } فالصحيح أن المراد بالنذير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اسم جنس يشمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل الرسل الذين من قبله، كلهم نذر عليهم الصلاة والسلام .
فالواجب على الإنسان أن يحرص في آخر عمره على الإكثار من طاعة الله، ولاسيما ما أوجب الله عليه، وأن يكثر من الاستغفار والحمد .
كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } هذه السورة يقال إنها آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها قصة عجيبة، حيث كان الأنصار رضي الله عنهم يقولون لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لماذا تدني عبد الله بن عباس وهو من الشباب ولا تدني شبابنا ؟ وكان عمر رضي الله عنه ينزل الناس منازلهم في العلم والدين، كل من كان أعلم وأدين فهو إلى أمير المؤمنين عمر أقرب، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون تقديمه حسب ما عند الإنسان من العلم والدين، القرابة لهم حق ولا شك، لكن العلم والدين أعظم ما يكون قربة إلى الإنسان من غيره .
والمهم أن الأنصار قالوا لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لماذا تدني عبد الله بن عباس ولا تدني شبابنا ؟ فقال لهم: أمهلوني، ثم جمعهم ذات يوم، وقال لهم: ماذا تقولون في قول الله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } ؟ قالوا: نقول إن الله قال للرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء النصر وفتحت مكة فسبح بحمد الله واستغفره لأنه كان تواباً، يعني فسروها بظاهرها فقال: ما تقول يا ابن عباس ؟ قال: أقول إن هذه السورة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أنها تدل على أن أجله قد اقترب .
ففهم هذا الفهم العجيب رضي الله عنه، يعني إذا جاء النصر والفتح فقد أديت ما عليك، اختم عمرك بالاستغفار والتسبيح بحمد الله عز وجل .
قالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي .
فأكثر منها في الركوع والسجود كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل .