54 - فالأول عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً متفق عليه .
الشَّرْحُ
قوله عليكم بالصدق أي ألزموا الصدق والصدق مطابقة الخبر للواقع وقد سبق في حديث كعب وصاحبيه ما يدل على فضيلة الصدق وحسن عاقبته وأن الصادق هو الذي له العاقبة والكاذب هو الذي يكون عمله هباء لهذا يذكر أن بعض العامة قال إن الكذب ينجي فقال له أخوه الصدق أنجى وأنجى هذا صحيح واعلم أن الكذب يكون باللسان ويكون بالأركان .
أما باللسان فهو القول وأما بالأركان فهو الفعل ولكن يكون الكذب بالفعل إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله فالمنافق مثلاً كاذب لأنه يظهر للناس أنه مؤمن يصلي مع الناس ويصوم مع الناس ويتصدق ولكنه بخيل وربما يحج فمن رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح ولكن هذه الأفعال لا تنبئ عما في الباطن فهي كذب .
ولهذا نقول الصدق يكون باللسان وبالأركان فمتى طابق الخبر الواقع فهو صدق وهذا باللسان ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق وهذا صدق بالأقوال .
ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام عندما أمر بالصدق بين عاقبتهم فقال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة .
البر كثرة الخير ومنه من أسماء الله البر أي كثير البر والإحسان عز وجل .
والبر من نتائج الصدق وقوله وإن البر يهدي إلى الجنة فصاحب البر نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منه يهديه بره إلى الجنة والجنة غاية كل مطلب .
ولهذا يؤمر الإنسان أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاح الغرور وقوله إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وفي رواية: ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً .
الصديق في المرتبة الثانية من الخلق من الذين أنعم الله عليهم كما قال الله سبحانه { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقاً ومعلوم أن الصديقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس .
وتكون في الرجال وتكون في النساء قال الله تعالى { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } وأفضل الصديقين على الإطلاق أصدقهم، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة الذي استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام ولم يحصل عنده أي تردد وأي توقف بمجرد ما دعاه الرسول إلى الإسلام أسلم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه، وصدقه حين تحدث عن الإسراء والمعراج وكذبه الناس وقالوا كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة ثم تقول إنك صعدت إلى السماء هذا لا يمكن .
ثم ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له أما تسمع ما يقول صاحبك ؟ قال ماذا قال ؟ قالوا إنه قال كذا وكذا قال إن كان قد قال ذلك فقد صدق فمنذ ذلك اليوم سمى الصديق رضي الله عنه .
وأما الكذب فإنه قال وإياكم والكذب .
إياكم التحذير أي احذروا الكذب وهو الإخبار بما يخالف الواقع سواء كان بالقول أو بالفعل .
فإذا قال قائل ما اليوم فقلت اليوم يوم الخميس أو يوم الثلاثاء فكذب لأنه لا يطابق الواقع لأن اليوم الأربعاء .
والمنافق كاذب لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر فهو كاذب بفعله .
وقوله وإن الكذب يهدي إلى الفجور يعني الخروج عن طاعة الله لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته وأعظم الفجور الكفر .
فإن الكفرة فجرة كما قال الله تعالى { أولئك هم الكفرة الفجرة } وقال تعالى { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين } وقال تعالى { وإن الفجار لفي جحيم } فالكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار .
وقوله وإن الرجل ليكذب وفي لفظ: لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا والكذب من الأمور المحرمة بل قال بعض العلماء إنه من كبائر الذنوب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يكتب عند الله كذاباً .
ومن أعظم الكذب ما يفعله الناس اليوم يأتي بالمقالة كذبا لكن من أجل أن يضحك الناس وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له وهذا وعيد على أمر سهل عند كثير من الناس .
فالكذب كله حرام وكله يهدي إلى الفجور ولا يستثنى منه شيء ورد في الحديث أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها .
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح وقال التورية قد تسمى كذبا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين فيهن في ذات الله تعالى قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة الحديث وهو لم يكذب إنما ورى تورية هو فيها صادق .
وسواء كان هذا أو هذا فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم .
وأشد شيء في الكذب أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل مثل أن يدعي عليه بحق ثابت فينكر ويقول والله مالك على حق أو يدعي ما ليس له فيقول لي عندك كذا وكذا وهو كاذب فهذا إذا حلف على دعواه وكذب فإن ذلك هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم تغمسه في النار والعياذ بالله .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فالحاصل أن الكذب حرام ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقا إلا على المسائل الثلاث على الخلاف السابق .