عن أبي ذرٍّ الغِفَاريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجلّ أنَّه قالَ: { يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ , فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُم وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
يا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ}. رواه مسلِمٌ.
شرح الحديث الرابع والعشرون من أحاديث الأربعين النووية
للشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله تعالى
الدرس (13) من الحديث 24 إلى 30
بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
اللهم اغفر لشيخنا والسامعين والحاضرين.
قال المؤلف -عليه رحمة الله-:
عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أُكْسُكم.
أَكسُكم.
أَكسُكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الرابع والعشرين من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري، هذا الحديث العظيم أعظم أحاديث أهل الشام كما قال أحمد وغيره.
"عن أبي ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-" إذا روى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ربه غير القرآن فإنه يسمى الحديث القدسي أو الإلهي، والأحاديث القدسية فيها مصنفات جمعها أهل العلم في أكثر من مصنف، وحكمها من حيث الإضافة إلى الله -جل وعلا- يميزها بهذه الإضافة عن الحديث النبوي، فأضيفت إلى الله -جل وعلا-، فقيل: هذا حديث إلهي أو حديث قدسي، إضافة إلى الإله أو القدوس، ومن حيث اللفظ ليست في حكم القرآن باعتبار أن القرآن منقول باللفظ متعبد بلفظه، وأما الأحاديث القدسية فحكمها من هذه الحيثية حكم الحديث النبوي، تجوز روايته بالمعنى، ولذا تجد هذا الحديث بلفظه عند مسلم وتجده عند غير مسلم بألفاظ مختلفة، وهو في حكم الحديث النبوي من حيث اللفظ، غير متعبد بلفظه، تجوز روايته بالمعنى كالأحاديث النبوية.
"عن ربه -عز وجل- أنه قال: ((يا عبادي))" هذه الإضافة إلى الله -جل وعلا- إضافة تشريف، هذه إضافة تشريف يقول الشاعر:
ومما زادني فرحاً وتيهاً
دخولي في قولك: يا عبادي
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
وأن صيرت أحمد لي نبيا
فهذا النداء من الله -جل وعلا- للعباد تشريف لهم بوصف العبودية الذي هو من أشرف الأوصاف، فالعبودية لله -جل وعلا- من أشرف الأوصاف ووصف الله بها نبيه -عليه الصلاة والسلام- في أشرف المواطن.
((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) الله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه مع أن حقيقة الظلم مستحيلة بالنسبة لله -جل وعلا-؛ لأن الظلم حقيقته التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والكل ملك لله -جل وعلا-، فالله -جل وعلا- من كرمه وجوده وفضله وإحسانه وعدله امتنع، منع نفسه من الظلم، وهو الذي منع نفسه، وهو الذي حرمه على نفسه، ولا يتصور أن يوصف هذا التحريم من الله -جل وعلا- وكذلك الإيجاب على نفسه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [(12) سورة الأنعام] يعني أوجبها على نفسه، فليس للعباد حق على الله -جل وعلا- أن يتصف بالمحرم الذي يتصف به المخلوق، أو الواجب الذي يتصف به المخلوق، مع أن المعتزلة من معتقدهم أنه يجب على الله -جل وعلا- كذا، يوجبون عليه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فالله -جل وعلا- من كرمه وفضله أن منع نفسه من الظلم، امتنع من الظلم، وحرمه على نفسه، ومنعها منه، وأوجب على نفسه أشياء، وكتب على نفسه أشياء.
((إني حرمت الظلم)) وضع الشيء في غير موضعه، هذا حده، مع أن هناك أشياء قد تندرج في هذا التعريف ولا تدخل في الظلم، الذي هو مجرد وضع الشيء في غير موضعه، يعني لو أن إنساناً وضع شيئاً لا أثر له، وأبدل شيئاً بشيء لا أثر له، لنفترض أن سلعتين من السلع المباحة التي تباع في الأسواق جديدة، ما استعملت، فأخذ مثلاً قلم، أخذ قلمين يجربهما في المحل، ووضع غطاء هذا على الثاني والعكس، هذا في غير موضعه، لكن هل يسمى ظلم؟ هذا لا أثر له ألبتة، وبينه وبين الظلم الذي هو أعظم أنواع الظلم الذي هو الشرك بينها مراتب كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى، منها ما يصل إلى الكراهة، ومنها ما يصل إلى التحريم، ومنها ما هو أعظم من ذلك، فهذا الحد يدخل فيه كل ما ذكر، لكن هناك أشياء معفو عنها.
ولو نزيد قيد في تعريف الظلم مما له أثر، وضع الشيء الذي له أثر في غير موضعه، أما ما لا أثر له مثلما قلنا في القلم، أخذ قلمين وجربهما وحط غطاء كل واحد للثاني، وهذا لا أثر له؛ لأنهما متفقان في الصنعة وفي القيمة وفي اللون، ما يفرق.
((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) الله -جل وعلا- يصف أنه له نفسي {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [(116) سورة المائدة] والمراد بذلك ذاته -جل وعلا- مع أن الذات يطلقها أهل العلم على الله -جل وعلا- فيقولون: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، مع أنها بمعنى النفس لم يرد بها دليل صريح، إبراهيم -عليه السلام- كذب ثلاث كذبات كلها في ذات الله، وليس المراد بها في نفس الله، وإنما من أجله، على كل حال حديث صحيح صريح قد يعوز في مسألة إثبات الذات، وأهل العلم يقولون عن الله -جل وعلا- أن له ذات لا تشبه الذوات.
((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) يعني حرم الله الظلم على خلقه، كما حرم عليهم أشياء كثيرة ومنها الظلم، وأقبح أنواع الظلم الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [(13) سورة لقمان] {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [(82) سورة الأنعام].
((وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) اعتمدوا هذا التحريم والتزموه، فلا ترتكبوا شيئاً يتضمن ظلماً لأحد، لا للنفس ولا للغير ((فلا تظالموا)).
((يا عبادي كلكم ضال)) ضال تائه عن الصراط المستقيم إما يميناً وإما شمالاً، وهذا أعظم أنواع الضلال، يعني قد يوصف الإنسان بأنه ضال، يعني لم يهتد الطريق الذي يريد أن يسلكه يقال: ضال، ومن الرواة معاوية بن عبد الكريم الضال، ثقة، مع أنه وصف بالضال؛ لأنه ضل يعني ضاع في طريق مكة، وليس هذا هو المقصود، إنما المقصود الضلال الحيد والميل عن الصراط المستقيم.
((كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) قد يقول قائل: إن الناس ولدوا على الفطرة: ((كل مولود يولد على الفطرة)) والفطرة الدين، فكيف يقال: إن الناس كلهم ضلال؟ نعم يولدون على الفطرة ثم تجتالهم الشياطين في الغالب.
((كلكم ضال)) وإذا أردنا أن نأخذ الضلال بما هو أعم من الضلال التام فلا بد أن يوجد هذا الضلال حتى عند أصلح الناس، فيحتاج إلى طلب الهداية، الضلال بمطلقه وهو الحيد عن الصراط المستقيم ولو شيئاً يسيراً، هذا موجود عند الناس كلهم، حتى المولود على الفطرة يوجد عنده لا بد أن يوجد عنده شيء من الانحراف إلا من عصمه الله -جل وعلا- من الأنبياء ((يا عبادي كلكم ضال)) وقد حصل من بعض الأنبياء ما حصل قبل النبوة وقبل الرسالة، والخلاف بين أهل العلم في عصمتهم من الصغائر، المقصود أن هذا الوصف الثابت في هذا الحديث لا بد أن يتصف به كل عبد من عباد الله قل هذا الضلال أو كثر، صغر أو كبر، ((كلكم ضال)) هذا الأصل ((إلا من هديته)) فالله -جل وعلا- يهدي من يشاء بأنواع الهداية، هداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والقبول.
((فاستهدوني)) يعني اطلبوا مني الهداية ولا تطلبوها من غيري، ((فاستهدوني أهدكم)) السين والتاء للطب ((فاستهدوني أهدكم)) فنطلب الهداية من الله -جل وعلا- في كل وقت وفي كل حين، ونلهج بها، وهذه مطلوبة من كل أحد، وفرض على كل مصل أن يقول في كل ركعة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [(6) سورة الفاتحة] على خلاف بين أهل العلم في مسألة المأموم.
((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته)) الأصل أن الإنسان يولد في بطن أمه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ثم بعد ذلك يطعم من ثدي أمه ومن كسب أبيه، فالمطعم هو الله -جل وعلا-، والأم والأب ومن سواهم كلهم أسباب لهذا الطعام وهذا الشراب ((فاستطعموني)) يعني اطلبوا مني الطعام ((أطعمكم)) هذا بالنسبة للمولود ظاهر، بالنسبة للكبار يبذلون الأسباب، ويطلبون الكسب والطعام والشراب من الله -جل وعلا-، فمنه -جل وعلا- كل شيء، وهو مصدر، وهو الرازق -جل وعلا-، لكن من يكون على يديه الرزق من المخلوقين هو سبب، ولذا أشرف الخلق -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا قاسم والله المعطي)).
((يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته)) الأصل أن الإنسان يولد ويخرج من بطن أمه عارياً هذا الأصل فيه، ثم بعد ذلك تحصل له الكسوة من الله -جل وعلا-، وإن وجد السبب الذي يتحقق به هذا الأمر من والد أو والدة أو قريب أو بعيد ((فاستكسوني أكسكم)) أطلبوا مني الكساء، ولا تطلبوه من غيري.
((يا عبادي إنكم تخطئون)) هذا المشهور، تخطئون من أخطأ الرباعي، وبعضهم يضبطها تخطَئون من خطئ الثلاثي، ويفرق بين خطئ وأخطأ، أخطأ من غير قصد {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] وخطئ خاطئ هذا من قصد الخطأ، وقوله: ((وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني)) يدل على أنه الخطأ الذي يترتب عليه الذنب الذي تطلب له المغفرة، وعلى كل حال تخطئون هذا هو الأشهر.
((بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً)) {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [(53) سورة الزمر] الله -جل وعلا- يغفر الذنوب جميعاً، لكن لا بد من الاستغفار ((فاستغفروني أغفر لكم)) يعني اطلبوا مني المغفرة لما بدر منكم من خطأ ومن مخالفات فيغفر الله -جل وعلا- لمن استغفره.
((فاستغفروني أغفر لكم)) يستغفر، يستعتب، يندم، يستحضر قلبه عند الاستغفار، يحضر قلبه عند الندم ليتم الوعد ((فاستغفروني أغفر لكم)) ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وفوائد الاستغفار كثيرة جداً، ذكرها أهل العلم في كتب الأذكار، وممن ذكرها ابن القيم في الوابل الصيب، ذكر فوائد الذكر، ومنه الاستغفار.
((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) الله -جل وعلا- هو النافع وهو الضار، الله -جل وعلا- تعالى وتقدس لا يستطيع أحد أن يصل إليه فيحاول ضره، نعم قد يؤذيه ابن آدم كما جاء في الحديث: ((يؤذيني ابن آدم)) لا شك أن المعاصي وأعظمها الشرك أذية، ومن آذى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد آذى الله، لكن ليس بمعناه الذي ندركه ونحسه، كما هو الحاصل للمخلوق.
((إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) الله -جل وعلا- هو الغني عن خلقه.
((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم)) يعني بدون استثناء، جميع الثقلين من أول مخلوق إلى آخر مخلوق، ((كانوا على أتقى قلب رجل)) أتقى قلب رجل، يقول بعض الشراح: المراد محمد -عليه الصلاة والسلام-، لو كان الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم، من الثقلين من الجن والإنس كانوا على أتقى قلب رجل وهو محمد -عليه الصلاة والسلام- ((ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)) الله -جل وعلا- لا تنفعه طاعة مطيع، ولا تضره معصية العاصي ((ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)) ومعلوم أنه إذا كانت الرعية صالحين أتقياء فإن الملك من المخلوقين ينتفع بهم كثيراً في ملكه، وإذا كانوا كلهم خارجين عن الطاعة فاسدين مفسدين فإن الملك يتضرر بهم، هذا بالنسبة للمخلوقين، أما الرب -جل وعلا- ((لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل)) لو كانوا كلهم على مستوى واحد، على مستوى قلب محمد -عليه الصلاة والسلام- أتقى الخلق وأعلم الخلق وأخشاهم لله ما زاد ذلك في ملك الله شيئا، وكذلك لو كانوا على شاكلة قلب إبليس، أفجر مخلوق، ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً.
((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) كما هو مقرر ومعلوم بالضرورة أن الطاعة لا تنفع الله -جل وعلا-، الله غني عن الخلق، عن طاعتهم، ولا تضره معاصيهم.
((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم)) جميع المخلوقين ((قاموا في صعيد واحد)) أرض مستوية منبسطة تستوعبهم جميعهم، تستوعب جميع الخلق من الأولين والآخرين، من الإنس والجن ((قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته)) كل واحد يسأل من هؤلاء الخلق الذين لا يحصيهم إلا الله -جل وعلا-، لو كل واحد سأل وأعطي مسألته، وكل واحد يسأل غير ما سأله غيره ((ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيَط إذا أُدخل البحر)) تأتي بالإبرة الصقيلة التي لا يعلق بها ماء، ولا تشرب الماء، فالمراد بالمخيط الإبرة الكبيرة، المخيط الذي يخاط به، وأكثر ما يستعمل في بيوت الشعر، نعم، المخيط، أما الإبرة الصغيرة تخاط بها الثياب، ((إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) هذا في الحقيقة لا ينقص من ملك الله شيئاً، لكن هذا مثال تقريبي، أدخل المخيط أو الإبرة أو أي شيء صقيل ثم أخرجه لا يعلق به شيء؛ لأنه صقيل ما يشرب الماء.
((يا عبادي إنما هي أعمالكم)) تقدم لنا في قصة موسى والخضر أشرنا إليها، وأن العصفور نقر بمنقاره من البحر، وأن الخضر قال لموسى: ما نقص علمي وعلمك أو ما علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
((يا عبادي إنما هي أعمالكم)) أعمالكم، كل واحد بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
((إنما هي أعمالكم أحصيها)) أضبطها وأحفظها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ((أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها)) كل يجد جزاء عمله، ((فمن وجد خيراً فليحمد الله)) الذي وفقه على فعل الخيرات ((ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) لأن الله -جل وعلا- هداه ودله وأرشده وركب فيه من الاختيار والعقل الذي يدرك به ما ينفعه ويضره، ثم بعد ذلك اختار الطريق الثاني ((ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
نعم الله -جل وعلا- ما ترك له حجة يحتج بها، لا يمكن أن يأتي يوم القيامة ويقول: أنت كتبتني شقياً فكيف تلومني؟ كما تقول الجبرية، لا، ترك له من الحرية، بين له الطريق، هداه النجدين، وبين له الطريق كما لو وجد عنده الماء، وجد عنده الماء، ولا يوجد ما يمنعه منه، نعم، ثم لم يشرب فعطش، من يلوم حينئذٍ؟ لا يلومن إلا نفسه، هو الذي فرط، لو سافر سفراً بعيداً يقطع به المفاوز ولم يحمل معه ماء ولا زاد، فمات جوعاً وعطشاً من يلوم؟ يلوم نفسه؛ لأنه هو الذي فرط، وهو الذي خان نفسه، فالذي بُين له الحلال والحرام، وبُين له طريق الحق والصواب وطريق الضلال ثم اختار الضلال لا يلومن إلا نفسه، العبد له مشيئة وله حرية وله اختيار، لكنه لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، فإذا أذن المؤذن ثم جلس في بيته ولم يصل قال: إنه كتب، هذا مكتوب عليه أنه ما يصلي، واحتج بالقدر على هذه المعايب، ليس له ذلك؛ لأنه ما الذي يدريه أنه مكتوب عليه أنه لا يصلي؟ ومن الذي يمنعه من أن ينهض إلى المواضئ ويتوضأ ويذهب إلى المسجد؟ في أحد يمنعه؟ في أحد حاول أن يقوم للصلاة وعجز؟ هل يمكن أن يقول: والله حاولت أقوم وكلما قمت إلى الصلاة سقطت؟ هذا إذا حاول وعجز معذور، هذا مريض، يصلي على حسب حاله، لكن الذي أعطاه الله -جل وعلا- من القدرة ومن الحرية والاختيار أن يذهب ويتوضأ ويذهب إلى المسجد ويرجع من دون أي معترض، ثم يقول: أنا مكتوب علي أني ما أصلي، الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعايب، ولذلك لما تحاج آدم وموسى، موسى قال لآدم: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، أخرجتنا وذريتك من الجنة، يلومه، قال له آدم: كم تجد هذا قد كتب علي قبل أن أفعل؟ قال: قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فحج آدم موسى، يعني ما احتج آدم على المعصية بالقدر، إنما احتج على المصيبة التي نشأت عن هذه المعصية بالقدر، وأما المعصية فذهب أثرها بالتوبة، ما صارت معصية؛ لأن الله تاب عليه واجتباه وهداه، فزال أثرها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة تهدم ما كان قبلها، فاحتج بالقدر على المصيبة الناشئة عن هذه المعصية التي تاب منها ولم تكن بعد ذلك معصية، فلا يلومن إلا نفسه.
قد يتسبب إنسان في إضلال إنسان، ثم يتجه باللوم عليه، كما يفعل أهل النار -نسأل الله السلامة والعافية- يلومون الأتباع، يلومون المتبوعين، أنتم الذين أضللتمونا؛ لأنه قد يكون شخص سبب في إضلال شخص، سبب في إغواء شخص، أراد أن يصلي، قال: انتظر بعدين إن شاء الله، فما زال به حتى خرج الوقت، لا تلوم إلا نفسك، أنت الذي أطعته، فأنت مسئول عن ذنبك، وهو مسئول عن ذنبه وذنبك أيضاً؛ لأنه تسبب فيه، والله المستعان.
.