7- بَابُ اليقين وَالتوكّل
قال اللَّه تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا اللَّه ورسوله وصدق اللَّه ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } .
وقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من اللَّه وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان اللَّه، والله ذو فضل عظيم } .
وقال تعالى : { وتوكل على الحي الذي لا يموت } .
وقال تعالى : { وعلى اللَّه فليتوكل المؤمنون } .
وقال تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على اللَّه } .
والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلومة.
وقال تعالى : { ومن يتوكل على اللَّه فهو حسبه } : أي كافيه.
وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللَّه وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون } .
والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة.
وأما الأحاديث:
74- فَالأوَّلَ : عَن ابْن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال : قال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم : « عُرضَت عليَّ الأمَمُ ، فَرَأيْت النَّبِيَّ وَمعَه الرُّهيْطُ والنَّبِيَّ ومَعهُ الرَّجُل وَالرَّجُلانِ ، وَالنَّبِيَّ وليْسَ مَعهُ أحدٌ إذ رُفِعَ لِى سوادٌ عظيمٌ فظننتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي ، فَقِيلَ لِى: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم فقيل لى انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي : هَذه أُمَّتُكَ ، ومعَهُمْ سبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ » ثُمَّ نَهَض فَدَخَلَ منْزِلَهُ ، فَخَاض النَّاسُ في أُولَئِكَ الَّذينَ يدْخُلُون الْجنَّةَ بِغَيْرِ حسابٍ وَلا عذابٍ ، فَقَالَ بعْضهُمْ : فَلَعَلَّهُمْ الَّذينَ صَحِبُوا رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، وقَال بعْضهُم : فَلعَلَّهُمْ الَّذينَ وُلِدُوا في الإسْلامِ ، فَلَمْ يُشْرِكُوا باللَّه شيئاً وذَكَروا أشْياء فَخرجَ عَلَيْهمْ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَقَالَ : « مَا الَّذي تَخُوضونَ فِيهِ ؟ » فَأخْبَرُوهُ فَقَالَ : « هُمْ الَّذِينَ لا يرقُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَتَطيَّرُون ، وَعَلَى ربِّهمْ يتَوكَّلُونَ » فقَامَ عُكَّاشةُ بنُ مُحْصِن فَقَالَ : ادْعُ اللَّه أنْ يجْعَلَني مِنْهُمْ ، فَقَالَ : « أنْت مِنْهُمْ » ثُمَّ قَام رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ : ادْعُ اللَّه أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فقال : «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ » متفقٌ عليه .
« الرُّهَيْطُ بِضمِّ الرَّاء : تَصغيرِ رَهْط ، وهُم دُونَ عشرةِ أنْفُس . « والأفُقُ » : النَّاحِيةُ والْجانِب . « وعُكاشَةُ » بِضَمِّ الْعيْن وتَشْديد الْكافِ وَبِتَخْفيفها ، والتَّشْديدُ أفْصحُ .
75- الثَّانِي : عَنْ ابْن عبَّاس رضي اللَّه عنهما أيْضاً أَنَّ رسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كانَ يقُولُ : «اللَّهُم لَكَ أسْلَمْتُ وبِكَ آمنْتُ ، وعليكَ توَكَّلْتُ ، وإلَيكَ أنَبْتُ ، وبِكَ خاصَمْتُ . اللَّهمَّ أعُوذُ بِعِزَّتِكَ ، لا إلَه إلاَّ أنْتَ أنْ تُضِلَّنِي أنْت الْحيُّ الَّذي لا تمُوتُ ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يمُوتُونَ» متفقٌ عليه .
وَهَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَاخْتَصرهُ الْبُخَارِيُ .
76- الثَّالِثُ : عن ابْنِ عَبَّاس رضي اللَّه عنهما أيضاً قال : «حسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الْوكِيلُ قَالَهَا إبْراهِيمُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حينَ أُلْقِى في النَّارِ ، وَقالهَا مُحمَّدٌ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حيِنَ قَالُوا: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيماناً وقَالُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوكِيلُ » رواه البخارى.
وفي رواية له عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما قال : « كَانَ آخِرَ قَوْل إبْراهِيمَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حِينَ ألْقِي في النَّارِ « حسْبي اللَّهُ وَنِعمَ الْوَكِيلُ » .
77- الرَّابعُ : عَن أبي هُرَيْرةَ رضي اللَّه عنه عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أقْوَامٌ أفْئِدتُهُمْ مِثْلُ أفئدة الطَّيْرِ » رواه مسلم .
قيل معْنَاهُ مُتوَكِّلُون ، وقِيلَ قُلُوبُهُمْ رقِيقةٌ .
78- الْخَامِسُ : عنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قِبَلَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَل رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَفَل مَعهُمْ ، فأدْركتْهُمُ الْقائِلَةُ في وادٍ كَثِيرِ الْعضَاهِ ، فَنَزَلَ رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وتَفَرَّقَ النَّاسُ يسْتظلُّونَ بالشجر ، ونَزَلَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم تَحْتَ سمُرَةٍ ، فَعَلَّقَ بِهَا سيْفَه ، ونِمْنَا نوْمةً ، فإذا رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يدْعونَا ، وإِذَا عِنْدَهُ أعْرابِيُّ فقَالَ : « إنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سيْفي وأَنَا نَائِمٌ ، فاسْتيقَظتُ وَهُو في يدِهِ صَلْتاً ، قالَ : مَنْ يَمْنَعُكَ منِّي ؟ قُلْتُ : اللَّه ثَلاثاً » وَلَمْ يُعاقِبْهُ وَجَلَسَ . متفقٌ عليه .
وفي رواية : قَالَ جابِرٌ : كُنَّا مع رسول اللِّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بذاتِ الرِّقاعِ ، فإذَا أتينا على شَجرةٍ ظليلة تركْنَاهَا لرسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَجاء رجُلٌ من الْمُشْرِكِين ، وسيف رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مُعَلَّقٌ بالشَّجرةِ ، فاخْترطهُ فقال : تَخَافُنِي ؟ قَالَ : « لا » قَالَ : فمَنْ يمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قال: «اللَّه».
وفي رواية أبي بكرٍ الإِسماعيلي في صحيحِهِ : قال منْ يمْنعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ : « اللَّهُ » قال: فسقَطَ السَّيْفُ مِنْ يدِهِ ، فأخذ رسَول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم السَّيْفَ فَقال : « منْ يمنعُكَ مِنِّي ؟ » فَقال : كُن خَيْرَ آخِذٍ ، فَقَالَ : « تَشهدُ أنْ لا إلَه إلا اللَّهُ ، وأنِّي رسولُ اللَّه ؟ » قال : لا، ولكِنِّي أعاهِدُك أن لا أقَاتِلَكَ ، ولا أكُونَ مع قوم يقاتلونك ، فَخلَّى سبِيلهُ ، فَأتى أصحابَه فقَالَ : جِئتكُمْ مِنْ عِندِ خيرِ النَّاسِ .
قَولُهُ : « قَفَل » أيْ : رجع . و « الْعِضَاهُ » الشَّجر الذي لَه شَوْك . و «السَّمُرةُ » بِفَتْحِ السينِ وضمِّ الْميمِ : الشَّجَرةُ مِن الطَّلْحِ ، وهِي الْعِظَام منْ شَجرِ الْعِضاهِ . و « اخْترطَ السَّيْف » أي : سلَّهُ وهُو في يدِهِ . « صلتاً » أيْ : مسْلُولاً ، وهُو بِفْتح الصادِ وضمِّها .
79- السادِسُ : عنْ عمرَ رضي اللَّهُ عنه قال : سمعْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ: « لَوْ أنَّكم تتوكَّلونَ على اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزَقكُم كَما يرزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِماصاً وترُوحُ بِطَاناً» رواه الترمذي ، وقال : حديثٌ حسنٌ .
معْناهُ تَذْهَبُ أوَّلَ النَّهَارِ خِماصاً : أي ضَامِرةَ الْبُطونِ مِنَ الْجُوعِ ، وترْجِعُ آخِرَ النَّهَارِ بِطَاناً : أيْ مُمْتَلِئةَ الْبُطُونِ .
80- السَّابِعُ : عن أبي عِمَارةَ الْبراءِ بْنِ عازِبٍ رضي اللَّه عنهما قال : قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « يا فُلان إذَا أَويْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُل : اللَّهمَّ أسْلَمْتُ نفْسي إلَيْكَ ، ووجَّهْتُ وجْهِي إِلَيْكَ ، وفَوَّضْتُ أمري إِلَيْكَ ، وألْجأْتُ ظهْرِي إلَيْكَ . رغْبَة ورهْبةً إلَيْكَ ، لا ملجَأَ ولا منْجى مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذي أنْزَلْتَ، وبنبيِّك الَّذي أرْسلتَ ، فَإِنَّكَ إنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وإنْ أصْبحْتَ أصَبْتَ خيْراً » متفقٌ عليه .
وفي رواية في الصَّحيحين عن الْبرَاء قال : قال لي رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « إذَا أتَيْتَ مضجعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ وقُلْ : وذَكَر نحْوَه ثُمَّ قَالَ وَاجْعَلْهُنَّ آخرَ ما تَقُولُ » .
81- الثَّامِنُ : عنْ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي اللَّه عنه عبدِ اللَّه بنِ عثمانَ بنِ عامِرِ بنِ عُمَرَ ابن كعب بن سعد بْنِ تَيْمِ بْن مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْن لُؤيِّ بْنِ غَالِب الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ رضي اللَّه عنه وهُو وأبُوهُ وَأُمَّهُ صحابَةٌ ، رضي اللَّه عنهم قال : نظرتُ إلى أقْدَامِ المُشْرِكِينَ ونَحنُ في الْغَارِ وهُمْ علَى رؤوسنا فقلتُ : يا رسولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أحَدَهمْ نَظرَ تَحتَ قَدميْهِ لأبصرَنا فقال: « مَا ظَنُّك يا أبا بكرٍ باثْنْينِ اللَّهُ ثالثُِهْما » متفقٌ عليه .
82 - التَّاسِعُ : عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ سلَمَةَ ، واسمُهَا هِنْدُ بنْتُ أبي أُمَيَّةَ حُذَيْفةَ المخزومية رضي اللَّهُ عنها أن النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كانَ إذَا خَرجَ مِنْ بيْتِهِ قالَ : « بسم اللَّهِ، توكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ أنْ أَضِلَّ أو أُضَلَّ ، أَوْ أَزِلَّ أوْ أُزلَّ ، أوْ أظلِمَ أوْ أُظلَم ، أوْ أَجْهَلَ أو يُجهَلَ عَلَيَّ » حديثٌ صحيحٌ رواه أبو داود والتِّرمذيُّ وَغيْرُهُمَا بِأسانِيدَ صحيحةٍ . قالَ التِّرْمذي : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وهذا لَفظُ أبي داودَ .
83 - الْعَاشِرُ : عنْ أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال : قال : رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَنْ قَالَ يعنِي إذا خَرَج مِنْ بيْتِهِ : بِسْم اللَّهِ توكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، ولا حوْلَ ولا قُوةَ إلاَّ بِاللَّهِ ، يقالُ لهُ هُديتَ وَكُفِيت ووُقِيتَ ، وتنحَّى عنه الشَّيْطَانُ » رواه أبو داودَ والترمذيُّ ، والنِّسائِيُّ وغيرُهمِ : وقال الترمذيُّ : حديثٌ حسنٌ ، زاد أبو داود : « فيقول : يعْنِي الشَّيْطَانَ لِشَيْطانٍ آخر : كيْفَ لك بِرجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفي وَوُقِى»؟ .
84 - وَعنْ أنَسٍ رضي اللَّهُ عنه قال : كَان أخوانِ عَلَى عهْدِ النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، وكَانَ أَحدُهُما يأْتِي النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، والآخَرُ يحْتَرِفُ ، فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أخَاهُ للنبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال : « لَعلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ » رواه التِّرْمذيُّ بإسناد صحيح على شرط مسلمٍ .
« يحْترِفُ » : يكْتَسِب ويَتَسبَّبُ .