وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس؛ ولذلك يقول العارفون بفضل الله: اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئاً لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلاً أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف يُثَمِّنه سبحانه؟ لا بد أن يكون الثمن غالياً.
إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم: جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم: أنا بعتها لله - إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له: أنت خائب؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل لك الناس؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك،
(4/2231)
فلماذا ترائيهم؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة؛ ولذلك قال الحق: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] .
وما دام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمناً، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس خاسر، ولا يعرف أصول التجارة؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله؛ ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة: 264] .
و «الصفوان» هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة وليست خشنة. لكنْ بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب؛ ولأن المروة ناعمة جداً فقليل من الماء ولو كان رذاذاً يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق: ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلاً، ولذلك قلنا: ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
«رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» .
إنّ العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال:
(4/2232)
{إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] .
فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح: إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معطٍ؛ لأنه سبحانه يؤكد: خذوا منه وهو الخاسر؛ لأنه لن يأخذ ثواباً، لكن المجتمع ينتفع.
إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة. . أي كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة، فيكون قد أطال عمر ماله.
فالبخيل هو عدو ماله؛ لأنه لم يستطيع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث:
«إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟
قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يُقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتي بصاحب المال ... .» .
لكن هل قال لك الدين: لا تفعل؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك.
(4/2233)
والبخيل عندما يُكَثَّر ماله يكون قد حرّم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف: مال الكُنزي للنزُهي، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبداً!! فسبحانه يوضح: أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيراً كثيراً «وما أنفقتم من شيء فهو يخلقه» لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعاً، وأيضاً فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلاً لمن يبذل.
كيف؟ لنفترض أن إنساناً كريماً، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده «فدانان» فهو يبيع فداناً ليفرج به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون المكتنز قد يسَّر سبيلاً للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي منّ الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله، إننا نقول له: إياك أن نعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبداً. أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيراً، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه قد قال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] .
فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيراً كثيراً، كذلك البخيل نقول له: ستيسر سبيلاً لكريم بذّال، والحق سبحانه وتعالى بيّن في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة «شيطان» ، فكل من يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداءً من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنّها قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إنّ وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس إليك، وكل هؤلاء نسميهم «شيطاناً» لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج، وهناك شياطين من الجن، وشياطين من الإنس،