فمثلاً يحدثنا التاريخ أن ملك «كندة» سمع عن جمال امرأة اسمها «أم إياس» بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من «كِندة» يقال لها: «عصام» وكانت ذات أدب وبيان وعقل لسان، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة «أم إياس» واسمها «أمامة بنت الحارث» وأعلمتها بما جاءت له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها: هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق ونَاطقِِيها فيما استنطقتك به. فلما اختلت «عصام» بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها. وكشفت للخاطبة «عصام» عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها المشهورة: «ترك الخداع» ما انكشف القناع «، وصار هذا القول مثلاً، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة» عصام «إلى الملك فسألها: ما وراءك يا» عصام «إنه يسأل: أي خبر جئت به من عند» أم إياس «؟ . فقالت: أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو: هزّ الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة.
فقال لها: أخبريني.
قالت: أخبرك حقاً وصدقاً. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفاً أغرى الملك. فأرسل إلى أبيها وخطبها وزفت إليه.
وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان
(4/2185)
أمومتها، في ميدان أنوثتها، قالت الأم لابنتها:» أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك - أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر لنصيحة - ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل.
إنك غداً ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمةً يكن لك عبداً. واحفظي عني عشر خصال تك لك ذخراً «.
وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم:»
أما الأولى والثانية:
فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة،
وأما الثالثة والرابعة:
فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
والخامسة والسادسة:
التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة.
أما السابعة والثامنة:
فالتدبير لماله والإرعاء على حشمه وعلى عياله.
وأما التاسعة والعاشرة:
فألا تفشي له سرّاً ولا تعصي له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سرّه لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحاً والحزن إن كان فرحاً «.
فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد معها.
تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء؟ . في ميدان مهمتها. إذن فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالباً إلا في ميدانها. ولأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها تتطلب العطف والحنان؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخاً باكياً، فيثور الأب على زوجته ويسب الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظاً مثل:» اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح «. وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة في مكانها.