إنما يلفتنا إلى أننا لم نأت بشيء من عندنا؛ فالعقل الذي يخطط للعمل مخلوق لله، والجوارح التي تعمل مخلوقة لله، والأرض التي تعمل فيها أو الصنعة التي
(4/2174)
نصنعها مخلوقة لله. إذن فكل حاجة لله، لكنه أوضح لك: سأحترم عملك، وعليك أن تعطي أخاك الفقير بعضاً مما رزقتك به.
ويقول قائل: ما دام هو ربُّ الكلّ،
فلماذا يترك واحداً فقيراً؟
نقول: لكي يُثبت الأغيار في الكون،
ويعرف الغنيّ أن الفقر قد يلحقه،
ويعرف القوي أن الضعف قد يلحقه،
إذن فالمسألة جاءت لنظام الكون،
فيحُنن الخالق قلب الواجد على المعدم ليعطيه،
فيوم تمنع الزكاة يظهر أثر ذلك في الكون
لأنها مسألة محسوبة بحساب دقيق،
ولذلك
فإذا رأيت واحداً جوعان بحق
فاعرف أن واحداً ضيع زكاته فلم يؤدها،
وإن رأيت عورة في المجتمع
فاعرف أن فيه حداً مضيّعاً لله،
لأن ربنا جعل المجتمع متساوياً
والنقص هنا يكمّله من هناك،
فإن رأيت نقصاً عاماً
فاعرف أن فيه حقاً لله مضيعاً.
وبعد ذلك حدثنا سيدنا جعفر الصادق
عن كبيرة ترك الصلاة،
ونعرف أن الصلاة هي إعلان دوام الولاء للإله الواحد،
فأنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
مرّة واحدة في العمر،
وتُزكيّ إن كنت واجداً وقادراً مرّة واحدة في السنة،
وتحجُ مرّة واحدة في العمر،
وتصوم شهراً واحداً في السنة،
وإن كنت مريضاً لا تصوم وقد يسقط عنك هذا الركن
إذا كان هناك مرض لا يرجى شفاؤه
أو أصبح الشخص لا يقوى على الصوم لكبر سنه،
وإذا كنت فقيراً لا تزكي،
فقد سقطت الزكاة عنك أيضاً،
وإن كنت غير مستطيع فلا تحج ويسقط عنك الحج.
ها هي ذي ثلاثة أركان لك عذر إن لم تفعلها.
وبقي ركنان اثنان من أركان الإسلام:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،
والصلاة،
وشهادة أن لا إله إلا الله يكفي أن تقولها في العمر مرة،
فماذا بقي من أركان الإسلام؟
بقيت الصلاة،
ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«الصلاة عمود الدين» .
(4/2175)
إذن فترك الصلاة معناه: أنه تمرد على إعلان العبودية والولاء للحق. وقد طلبها الله في اليوم خمس مرات، وحتم الجماعة فيها في يوم الجمعة في الأسبوع. لماذا؟ حتى يرانا كل العبيد لله عبيداً لله. فلا يعبد واحد ربنا سراً وبعد ذلك لا يرى أحد منا أحداً فكلنا نسجد لله ولا بد من إعلان الولاء لله، فيوم تُترك الصلاة ينعدم إعلان الولاء له - سبحانه -.
ومن العجيب أن الصلاة فرضها الله عليك بأنك تذهب له خمس مرات في اليوم، هذا بالأمر والتكليف، وإن لم تذهب تأثم إنه ما أغلق الباب اذهب له في أي وقت تجده في استقبالك في أي مكان تقف وتقول: الله أكبر تكون في حضرة ربنا، وقلنا سابقاً: إن من له السيادة في الدنيا حين تطلب لقاءه تقدم طلباً حتى تلقاه. ويحدد لك الميعاد، وبعد ذلك يسألك أحد رجاله: ستتكلم في ماذا. وقد يقف المسئول أو السيد في الدنيا وينهي المحادثة. لكن ربنا ليس كذلك. أنت تذهب له في أي وقت وفي أي زمان وتطيل كما تحب ولن ينهي المقابلة إلا إذا أنهيتها أنت. ولذلك يقولون:
حسبُ نفسي عزاً بأني عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد ربّ
هو في قدسه الأعزُّ ولكن ... أنا ألقَى متى وأيْن أُحِبّ
صحيح هو يأمرني أن ألقاه خمس مرات في اليوم، لكن الباب مفتوح للقائه في أي وقت، وأوضحنا سابقاً - ولله المثل الأعلى - هب أن صنعة تعرض على صانعها خمس مرات كل يوم - أيوجد فيها عطب؟ لا.
وأنت تعرض على خالقك وصانعك كل يوم خمس مرات. والصنعة العادية يُصلحها صانعها بسلك أو بمسمار أو بوصلة يضعها، أما أنت المخلوق لله وربّك غيب وهو يُصلح جهازك بما يراه مناسباً.
وبعد ذلك بقي من الكبائر نقض العهد وقطيعة الرحم، ونقض العهد لا يجعل إنساناً يثق في وعد إنسان آخر. فينتشر التشكك في نفوس الجماعة الإيمانية بعضها من بعض، والوعد قد يحل مشاكل للناس/المعْسرين، فعندما يقول قادر لغير قادر: أعدك بكذا. ويعطيه ما وعده به، فإن وعده المدين بسداد الدين وأخلفه مرة فلن
(4/2176)
يصدقه بعد ذلك. وإن وعده وصدق ثم وعده وصدق ثم وعده وصدق، يصبح صادقاً، وكل ما عند الناس يصبح عنده، ولذلك يقولون: من يأخذ ويعطي يكون المال ماله.
وبعد ذلك تأتي كبيرة قطيعة الرحم: لأن الحق سبحانه وتعالى اشتق للرحم اسماً من اسمه فهو القائل في الحديث القدسي:
«أنا الرحمن خلقت الرحِم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» .