مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب:
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] .
(4/2089)
فكأن «وكيف تأخذونه» هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول: «كيف» فهذا تعجيب من أن تحدث هذه، وقلنا: إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي إلا حقوقاً دون العرض، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقاً في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدَيَّة، وقد ينصب إلى أنك تعطية مثلاً المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ.
وبعد ذلك يتناول الحق سبحانه وتعالى قضية يستديم بها طهر الأسرة وعفافها وكرامتها وعزتها، ويبقى لأطراف الأسرة المحبة، والمودة فلا يدخل شيء يفضي على هذه المحبة والمودة، ويُدخل نزغ الشيطان فيها. قال الحق سبحانه: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ... }
(4/2090)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
فكأن هذه المسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و «صفوان بن أمية» وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على «فاختة بنت الأسود بن المطلب» كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا؟ لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودَّة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة، وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجاً أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة.
(4/2090)
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، ربما راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه: بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها، ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان.
فيقول الحق: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} والنكاح هنا يُطلق فينصرف إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول - أي العملية الجنسية - هو الشائع والأوْلى، لأن الله حينما يقول: «الزاني لا ينكح إلا زانية» معناها أنَّه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج.
والحق هنا يقول: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فما هو السلف هذا؟ إن ما سلف كان موجوداً، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعاً، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك قال - سبحانه -: {إلا ما قد سلف} فجاء ب (ما) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا.
هب أن واحداً قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم. . أيقول سلف أن تزوّجتها قبل الحكم! نقول: لا الزمن انتهى، إذن فقوله: {مَا قَدْ سَلَفَ} يعني الزمن، وما دام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت (ما) ولو جاءت (مَن) بدل (ما) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال (إلا ما قد سلف) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء ألبتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرِّع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة
(4/2091)
السليمة. فلم يقل: إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلاً قبيحاً {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أنّ الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من امرأة أبيه كان يُسمَّى عندهم نكاح «المقت» والولد الذي ينشأ يسمُّونه «المقتي» أي المكروه.
إذن فقوله: {إنه كان} أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم {كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} . فالله يوضح: إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة.
مثال ذلك: أن واحداً ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحدٌ عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي مضى.
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه {كان فاحشة} أي قبحاً، و {مقتاً} أي مكروهاً، {ساء سبيلا} أي في بناء الأسرة.
ثم شرع الحق سبحانه وتعالى يبين لنا المحرمات وإن كانت الجاهلية قد اتفقت فيها، إلا أن الله حين يشرع حكماً كانت الجاهلية سائرة فيه لا يشرعه لأن الجاهلية فعلته، لا. هو يشرعه لأن الفطرة تقتضيه، وكون الجاهلية لم تفعله، فهذا دليل على أنها فطرة لم تستطع الجاهلية أن تغيرها، فقال الحق سبحانه وتعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ... } .
(4/2092)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
من الذي يحلل ويحرم؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت. . إلخ، من أين جاءتهم هذه؟ الحق يوضح: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] .
(4/2093)
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، أنزل لهما المنهج،