لا مطاع إلا الله :
الطائفة الثانية تقول : إن معنى لا إله إلا الله .
لا مطاع بحق إلا الله ، أو لا أحد يستحق الإطاعة إلا الله ، فمن أطاع غير الله فقد كفر بزعمهم ، ولهذه الطائفة قصة يحسن ذكرها : وذلك أنه لما كان جميع أهالي الهند متفقين على مطالبة الحرية والاستقلال ، وطرد الإنجليز من الهند ، ولم يختلف في ذلك حزب من الأحزاب ، ولا ملة من الملل ، واستعدوا للتضحية بكل ما يملكون في هذا السبيل ، قامت طائفة من المسلمين بمشاركة الناس في هذا الجهاد ، محتجين بحة هي أقوى عندهم من جميع الحجج ، وذلك زعمهم أن الناس بسبب خضوعهم لقوانين الحكومة البريطانية أصبحوا مشركين ، لأن إطاعة القوانين عندهم عبادة بلا شك ، وزعموا أنه مفهوم لا إله إلا الله زاعمين أن معناها : لام مطاع إلا الله ولهم في هذا مؤلفات كثيرة .
وعلى هذا الأساس حكموا بالكفر على المسلمين الذين أكرمهم الله بالإيمان ، وأعلن في محكم كتابه أنه تقبل منهم ذلك حيث يقول الله تعالى :{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
ولا شك أن إمرأة فرعون عاشت مطيعة لأوامر زوجها (فرعون) وقوانين حكومته ، ومع ذلك جعلها الله مثلاً للمؤمنين ، فلله الحمد على هذا التيسير والتخفيف .
ومعـروف للجميع ما ذكر الله لنا عن يوسف عليه السلام من قبوله الوظيفة تحت الملك الكافر .
كما يعرف الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث جماعة من الصحابة إلى الحبشة يطلبون الأمن ، ولم يعملوا هناك انقلاباً ثورياً ضد النجاشي ، بل عاشوا مطمئنين هادئين .
وعلى هذا الأساس حرفوا معاني الآيات التي جاء فيها الأمر بعبادة الله ، والنهي عن عبادة غيره ، كما فسروا الطاغوت بإطاعة قوانين الحكومة غير المسلمة ، رغم ما اتفق عليه المفسرون من أن المراد من عبادة الطاغوت عبادة الآلهة الباطلة .
وهذه المزاعم كلها غلو منهم ، ودين الله براء منه ، وهذه الطائفة صنو جماعة التكفير والهجـرة التي ظهرت في مصر وغيرها من البلاد (صنو جماعة التكفير : أي أختها ومثيلتها) .
تفسير سيد قطب :
ومن الخطأ ما فسر به (سيد قطب) قول الله عز وجل :
1- {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
أي فلا شريك له في الخلق والاختيار .
أقول : هذا معنى من معاني الربوبية التي اعترف بها المشركون كما تقدم ، ضيع به المعنى الحقيقي لكلمة (لا إله إلا الله ) كما سبق تفسيرها الصحيح : لا معبود بحق إلا الله ، لأن الإله : معناه المعبود ، وليس معناه الخالق .
2- وقريب من قوله في تفسير قوله تعالى : {إِلَهِ النَّاسِ}
والإله : هو المستعلي المستولي المتسلط)
أقول : إن الاستعلاء والسلطان والحكم والملك ولا سيادة من صفات الرب ومثلها الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير التي اعترف بها المشركون ، كما تقدم في سورة يونس .
والعرب كانوا يعرفون معنى الإله : هو المعبود ، ولذلك رفضوها لأنه تدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة آلهتهم ، كما قال الله عنهم : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} .
وقال الله يحكي قول المشركين : {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
قال ابن كثير : ( أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو) فقد فسر ابن كثير : الإله : المعبود.
تفسير ابن تيمية :
قال ابن تيمية رحمه الله : الإله هو المستحق للعبادة ، فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شئ وخالقه ، وهو مع هذا يعبد غيره ، فإنه مشرك بربه ، متخذ من دونه إلهاً آخر ، فليست الآلهة هي الخلق ، أو القدرة على الخلق ، أو القدم كما يفسرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام ، إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شئ وربه ، فلو كان هذا هو الإله لكانوا قائلين : إنه لا إله إلا الله .
فهذا موضع عظيم جداً ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام ، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركاً ، وأدخلوا في التوحيد والإسلام أموراً باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه ، وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أموراً عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله ، فأكثر هؤلاء المتكلمين دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك .
بل التوحيد الذي لا بد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد ، وهو توحيد العبادة ، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله : أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه ، وهذا هو الإسلام ، فإن الإسلام يتضمن أصلين :
أحدهما : الاستسلام لله .
والثاني : أن يكون ذلك له سالماً ، فلا يشرك به أحد في الإسلام له وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه .
لا حاكم إلا الله :
وقريب من هذا التفسير : لا مطاع بحق إلا الله ، وقد تبين خطأ هذا التفسير كما تقدم ما ذكره (سيد قطب) في كتابه معالم في الطريق حين قال : وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات تزعم لنفسها أنها مسلمة وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار ، لا لأنها تعتقد بألوهية غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ( ) ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها ، فهي - وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمة نظامها وشعائرها ، وقيمها وموازينها ، وعاداتها ، وتقاليدها ( ) .. وكل مقومات حياتها تقريباً ، والله سبحانه وتعالى يقول عن الحاكمين : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، كما أنه سبحانه قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دونه لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم مسلمون .
اعتبر الله سبحانه وتعالى ذلك من اليهود والنصارى شركاً ، كاتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ، ويعبدون سواه ، فهذه كتلك : خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله ( ) إلى أن يقول : وإذا تعين هذا فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات كلها يتحدد في عبارة واحدة . إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
ملاحظات على كلام سيد قطب :
1- تكفيره للمجتمع الإسلامي : وذلك حين قال في ( معالم في الطريق) وأخيراً يدخل في المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة .
أقول : لا يجوز تكفير المجتمعات الإسلامية : بعد أن أكرمها الله تعالى بالإسلام ، والحاقها بالمجتمع الجاهلي الذي لم يدخل في الإسلام .
أ- قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ، ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمير ، تكرمه لهذه الأمة .)
ب- وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) .
قال الخطابي : معناه : لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول : فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم ، أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم ، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ، ورؤيته أنه خير منهم .
وقد بوب الإمام مسلم في كتابه فقال : ( باب النهي عن قول : هلك الناس) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً ، فإن كان كافراً ، والا كان هو الكافر) .
وقال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ولظن فإن الظن أكذب الحديث) .
2- وقال (سيد قطب) في كتابه ( معالم الطريق ) . وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار ، لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً .
أقول : إن هذا الكلام يدل على أنه لا يهتم بالشرك الموجود في أكثر البلاد وهو دعاء الأولياء من دون الله كقولهم : المدد يا سيدي الحسين ، والطواف حول قبر الحسين وزينب ، والنذر للقبور ، واعتقاد أن الأولياء يعلمون الغيب ، ويتصرفون في الكون ، وهم الأبدال ، والأقطاب والأغواث ، وغيرها من أنواع العبادة التي لا تجوز إلا لله وحده ، والتي يعتبرها الإسلام من الشرك الأكبر التي يخلد صاحبها في النار ، فكان الواجب عليه أن يحذر منها ، لأن الرسل جميعاً حذروا منها ، والقرآن الكريم يهتم بالتوحيد ، ويحـذر مـن الشـرك المنتشر الآن ، ولا سيما الدعاء الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (الدعاء هو العبادة) ، وقال الله تعالى : {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} (الظالمين : المشركين) .
3- ثم يقول (سيد قطب) في كتابه (معالم في الطريق) : ولكنها أي المجتمعات الإسلامية تدخل في هذا الإطار (أي المجتمع الجاهلي) لأنها تدين بحاكمية غير الله ..... والله تعالى يقول : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
أقول : ليت قائل هذا الكلام الذي فيه تكفير للمجتمعات الإسلامية رجع إلى تفسر ابن كثير عند تسير هذه الآية حيث فصل وأجاد وأفاد حين قال :
أ- قال السدي : ومن لم يحكم بما أنزل الله فتركه عمداً ، أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين .
وقال ابن عباس : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به فهو ظالم فاسق (رواه ابن جرير) ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب ، أو من جحد حكم المنزل في الكتاب .
ب- قال ابن طاووس : وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
ج- وقال الثوري عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
د- وقال وكيع : ( ومن لم يحكم ..... الآية) قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .
هـ وقال طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، قال : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه .
أقول : من هذه الأقوال عن الصحابة والتابعين يتبين خطأ تفسير سيد قطب للآية وتكفيره للمجتمع الإسلامي ، وهذه بادرة خطيرة انتشرت بين بعض الجماعات الإسلامية مع الأسف الشديد ، أسأل الله لنا ولهم الهداية .
تفسير محمد قطب :
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
يقول (محمد قطب) في كتابه (لا إله إلا الله) .
1- لما قال الناس لابن عباس رضي الله عنه إن هؤلاء يقصدون الأمويين - يحكمون بغير ما أنزل الله ، فما القول فيهم ؟ قال قولته الشهيرة : أنه كفر دون كفر ، أنه الكفر الذي تعلمون ، كفر لا يخرج من الملة ..الخ .
2- أقول : فتحت للأخ محمد قطب هاتفاً ، وسألته عن صحة هذا النقل عن الأمويين ، فلم يذكر المرجع وقلت له : لم يذكر الطبري ولا ابن كثير هذا التخصيص .
3- ثم رجعت إلى تفسير الطبري فرأيته يرجع تخصيص الآية بأهل الكتاب حيث قال : وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب ، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ، ففيهم نزلت ، وهم المعنيون بها ثم قال : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا يحكمون بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون ، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر ، كما قال ابن عباس ، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه ، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي .
أقول : يستفاد من تفسير الطبري هذا ما يلي :-
1- أن الآية نزلت في أهل الكتاب ، تعم من جحد حكم الله وهو عالم كما قال ابن عباس ، ومفهومه أن من حكم بغير ما أنزل ، غير جاحد ، أو غير عالم بالحكم لا يكفر ، والدليل قوله تعالى في سورة المائدة : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
2- لم يذكر الأخ (محمد قطب) أيضاً وحـدة الوجود عند الصوفية ، في نواقض لا إله إلا الله ، واكتفى بذكر فكرة (الفناء) التي قال عنها في بحث آخر: ( في الصوفية الهندية يسعى الإنسان لتحقيق الخلود ، ولا يتم هذا إلا بالفناء في الروح الأعظم والاتحاد معه وهذا لا يتم إلا بتعذيب الجسد وإهانه لتنطلق الروح من أوهاقه، وترفرف في عالم النور) .
أقول : إن فكرة الفناء التي عرفها الأخ (محمد قطب) تختلف عن وحدة الوجود التي ذكرها أخوه (سيد قطب) في تفسيره كما سبق .
فكان عليه أن يذكرها في نواقض الشهادة ، ويذكر نصها ، ومن أخذ بها كابن عربي وغيره حيث قال :
الرب عبد ، والعبد رب يا ليت شعري من المكلف
وقال غيره :
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنسية
3- لم يفصل في ذكر النواقض حينما عدها كما فصل في الحكم بغير ما أنزل الله ، علماً بأن دعاء غير الله ، والاستعانة والنذر والذبح لغير الله وقع فيه علماء أهل البدع والعوام .
4- لم يذكر الطواف حول القبور بنية العبادة والترب كالطواف حول قبر الحسين وغيره .
5- لم يذكر في النواقض عقيدة بعض الصوفية المعتقدين بأن هناك أقطاباً أربعة يدبرون أمور الكون ، مع أن المشركين السابقين يسندون التدبير لله .
6- قال إن التلفت من التكاليف طبع بشري صاحب الإنسان منذ نشأته ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} .
أقول : لا يجوز لأي مسلم كان إطلاق هذا التعبير لعدم صحته ، ولما فيه من المس بكرامة النبي آدم الذي نسى أمر ربه ولم يتفلت ولو أنه قال : إن الخطأ والنسيان من طبيعة الإنسان لكان صواباً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)
وقال العلماء : ما سمي الإنسان إنساناً إلا لنسيانه .
من لم يستطع الحكم بالقرآن :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى :
وكذلك الكفار : من بلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر ، وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه ، واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره ، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام ، لكونه ممنوعاً من الهجرة وممنوعاً من إظهار دينه ، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام ، فهذا مؤمن من أهل الجنة ، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون وكما كانت إمرأة فرعون ، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر ، فإنهم كانوا كفار ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من ديـن الإسـلام ، فإنـه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه ، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون : {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} .
وكذلك النجاشي هو وأن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام ، بل إنما دخل معه نفر منهم ، ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه ، وأخبرهم بموته يوم مات : ( إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات) وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك ، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت ، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس ولم يصم شهر رمضان ، ولم يؤد الزكاة الشرعية ، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بالقرآن ، والله قد فرض على نبيه بالمدينة إنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل إليه ، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه .
وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم ، وفي الديات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع ، والنفس بالنفس والعين بالعين ، وغير ذلك .
والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن ، فإن قومه لا يقرونه على ذلك ، وكثيراً ما يتولى بين المسلمين والتتار قاضيً بل وإماماً ، وفي نفسه أمور العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك ، بل هناك من يمنعه ذلك ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وعمر بن عبدالعزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل ، وقيل : أنه سُمّ على ذلك ، فالنجاشي وأمثاله سعداء في لجنة وإن لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه ، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها .
ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب ، قال الله تعالى {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
وهذه الآية قد قال طائفة من السلف : إنها نزلت في النجاشي ، ويروى هذا عن جابر وابن عباس وأنس ، ومنهم من قال : فيه وفي أصحابه ، كما قال الحسن وقتادة ، وهذا مراد الصحابة ولكن هو المطاع ، فإن لفظ الآية لفظ الجميع لم يرد واحد .