انحلال العلاقات الدنيوية يوم القيامة
ومن الأهوال -أيها الأخ في الله- هول عجيب، هول إذا عشنا صورة منه في الدنيا تكاد الأفئدة تتقطع، ألا وهو علاقة القرابة والأحبة، تأمل أحوال الناس في هذه الرابطة الدنيوية، كيف أن الأم تموت حسرة وكمداً خوفاً على وليدها، والأب كذلك، والزوج والزوجة والأخ والأخت، فلاحظ معي -أيها الأخ- في هذه الدنيا كيف أن الإنسان يقدم لمن يعز عليه نفسه فداءً، وهذا موجود والحمد لله. فالأم دائماً دعاؤها أن لا تذوق يوم وفاة ولدها، أن تموت هي قبله فتفديه بنفسها، والأب والزوج والزوجة، لكن إذا جاء يوم القيامة فالهول فظيع جداً أيها الأخ في الله، فالأنساب تتقطع فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، بل والله -أيها الأخ- إن هول ذلك اليوم لأشد من ذلك، ليته اقتصر على تقطع الأنساب في ذلك اليوم، إنه أعظم هولاً وأفظع، إن من صور هول ذلك اليوم أن المجرم يود لو يفتدي من عذاب جهنم بأحبته، فهل تصورت ذلك اليوم الذي يتمنى أن ينجو فيه وأن يقذف بأمه وأبيه وصاحبته في نار جهنم! قال الله تبارك وتعالى: (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعني أنهم في ذلك اليوم يرون الحقائق (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:11-16]، ولا يمكن أن يفتدى. ويجوز أن يفتدي الإنسان نفسه بملء الأرض ذهباً، لكن أن يفدي المجرم نفسه بأحبته فهذا والله هول شديد، يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ [يونس:54]، إذاً لماذا تظلم اليوم من أجل الأرض والمال ومتاع الدنيا الزائل، ألا تتذكر -يا عبد الله- أنك في يوم القيامة لا تتمنى قليلاً من المال لتفتدي به، وإنما تتمنى ما في الأرض جميعاً، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ [الرعد:18] فالظالمون والكافرون يتمنى أحدهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدي به، لكن أنى له ذلك؟ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ [الرعد:18]. أما الكافر فإن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91]، ثم هأنت تبيع دينك لأجل عرض من الدنيا! روى البخاري في صحيحه أن النبي صل الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال: كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك، سألتك أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك).
صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وأبأسهم في الجنة
وفي أهوال يوم القيامة صور متنوعات عجيبات، سنقف مع مواقف مختصرة منها، ولا أريد أن أقول: صغيرة لأنها -والله- أهوال كبيرة. موقف يجتمع فيه الخلائق، ثم يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، وتأمل كيف أن هذا الموقف سيكون أمام العالم كله، أمام الأولين والآخرين، فقبل دخولهم النار يؤتى بأنعم أهل الدنيا، ولك أن تتصور أنعم أهل الدنيا وما الذي اجتمع له من الجاه والسلطان والمال والبساتين إلى آخر النعم التي تتصور، يؤتى به يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة واحدة في ثانية أو أقل من ثانية، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله -يا رب- ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم قط. نسي نعيم الدنيا. وصورة أخرى مقابلة، يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة ممن اجتمع عليه المرض والفقر والجوع والابتلاء... إلخ، ثم يصبغ صبغة في الجنة، فيقال له والناس يسمعون: هل رأيت بؤساً؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت بؤساً وما مر بي بؤس. مشاهد عظيمة من مشاهد يوم القيامة، والناس ينظرون وينتظرون بقية الحساب.
موقف الفرط المحتسب
وهناك مشهد آخر هو مشهد الصبي الذي مات قبل البلوغ، لكن أباه مؤمن وأمه مؤمنة، فاحتسبا أجره عند الله وصبرا: تصور صبياً يوم القيامة يبحث في ذلك الهول الفظيع؛ إنه يبحث عن والديه، فيمسك بهما والله أعلم ما حال والديه، فقد يكونان مقصرين، وقد يكونان مذنبين، لكن الصبي يأخذ بهما ويشفع عند ربه ويقول: يا رب! لا أدخل الجنة إلا مع والدي، فيشفعه الله فيهما، لاحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى والصبر عنده.
موقف الشهيد من الشفاعة
وهناك مشهد آخر، فالشهيد ورد أنه يشفع لسبعين من أهل بيته، فلك أن تتصور كيف حال الشهيد مع أهل بيته في عرصات القيامة، فيختار منهم سبعين يطلب لهم الشفاعة ويشفعه الله فيهم، فهل سيقدم على والديه أحداً؟ هل سيقدم على زوجه وأولاده أحداً؟ الجواب لا. لكن سينتقل أيضاً إلى الآخرين، ولك أن تتأمل حالك -يا عبد الله- وأحد أقربائك من الشهداء وأنت في هول فظيع، وهو صاحب لك في الدنيا يعرفك، أراك ستقبل عليه تريه وجهك لعله يتذكرك فيعدك من السبعين الذين يطلب الشفاعة لهم، فما حال ذلك الذي يسخر من الشهداء في سبيل الله ويقول: فلان مجنون راح للجهاد ومات فيه، أمه مسكينة ذهب ولدها ومات في سبيل الله، لكن أن يموت في حادث سيارة أو يموت مدمناً للمخدرات، فهذا حدث عادي لا يستنكره الناس.
تصنيف وتمييز أهل الجنة والنار
ويجتمع العباد ويأتي الهول الفظيع، وسأحكي الحديث لأنه يصور الأمر صورة واضحة تماماً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وآله وسلم قال: (يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. ثم يقول الله: أخرج بعث النار. قال -أي آدم-: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال صل الله عليه وسلم: فذاك حين يشيب الصغير، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الرجل؟ ولكن البشير صل الله عليه وسلم قال لهم: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجلاً. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. ثم قال: شطر أهل الجنة). مشهد فظيع (أخرج بعث النار يا آدم) وهو أبو البشر، فما حالك يا عبد الله؟ هل تكون من هؤلاء الذين يؤمر بهم إلى النار، أم من أولئك الذين يؤمر بهم إلى جنات النعيم؟